ذاتُ الرِدَاءِ الأبيضِ … أميلي ديكنسون
شاعرة القرن التاسع عشر التي قال فيها روبرت سبلر 《أصبحت واحدة من أعظم الشعراء في التاريخ وأعظم الشاعرات جميعهن، دون أن تتحرك من حديقتها》نُسبت لها الريادة في الشعر وكُتبت فيها افلامٌ ومسلسل، فهل انصفها وعرّف بمكانتها الأدبية؟ وما هو سبب ارتباط اللون الأبيض بها؟
ذاتُ الرِدَاءِ الأبيضِ … أميلي ديكنسون
هي شاعرةُ القرنِ التاسعِ عَشَر التي قال فيها روبرت سبلر《أَصبحت واحدةً من أعظمِ الشعراءِ في التاريخِ وأعظمِ الشاعرات جميعهن، دون أَن تتحرك من حديقتها》، نُسبت لها الريادةُ في الشعرِ ولكنَ هذا الاعتراف لُحِقَ بإسمها تدريجياً بعد موتها. إذ أن انعزالَ أميلي كان أحدَ أَسبابِ هذا الإعتراف المتأخر، فهي وإِن كتبت الشعر بغزارة لم تنشر منه سوى ١٠-١٢ قصيدة والتي لم تحظى بالإِنتباهِ والاهتمامِ الكبير من القُرّاء والنُقّاد المعاصرينَ لها، كونها لم تَسِر على قواعدِ الشِعرِ والنُظمِ المُعتادة وإنّما شَقّت لنفسها أسلوباً غير تقليديّ. تكشف مراسلاتها مع الناقد الأميركي (ثوماس وينتورث هيغنسون) نصائحاً ؛ إذ نصحها إلى السعي لتطويرِ قدرتها وتجاوزِ ما فيها من ثغراتٍ حتى يتمكن لكتاباتها أن تكون أكثر مقبولية من الذائقةِ العامةِ ،معتبراً شِعرها خارج عمّا هو متعارفٌ عليه.
يحتوي شِعرها على سطورٍ قليلةٍ ، مُحكَمة مُلَغّزة تفتقر إلى العناوين وإلى الإلتزام بقواعد الترقيم. رغم هذا فهي تمتلكُ نغماً هادئاً حزيناً، وهي تصوغ شِعرها بدقةٍ تتجاوز حدودَ المعنى إلى صوتِ الكلمات والحروف وطريقة رسمها ليُكمل الصورة التي تبتغي تجسيدها فتُحَمِّل قصائدها أبعاداً مختلفة يصعب تفسيرها على وجهٍ واحد وهو ما جعل أمرَ الترجمةِ لها ، فيه شيءٌ من الشدّة لا يخلو من غُبن
تروى أسبابٌ أخرى لعزلتها فقد أخذتا هي وأُختِها على عاتِقهِما رعاية أمهما المريضة،وكانت أميلي نفسها مريضة جسدياً ونفسياً ، كما نسب زملاءٌ لها سبب تركها الدراسة لما هي فيه من قلقٍ وخوفٍ مرضيٍّ وإحباط. أياً يكن السبب…. غير انّها احتاجت للكتابة واحتاجت لعزلتها كي تعيش كتابتها وهو أمرٌ ذكرته هي نفسها.
لم تكن لأميلي نوازعَ تدّينٍ فقد صُنفت في مدرستها من قبل إحدى المعلمات في مجموعة عديمي الإيمان، إذ كان لها ميلٌ للعلوم.
“الإيمان ابتكارٌ حَسَن
عندما يستطيعُ الناسُ الرؤية
ولكن المجاهرَ أكثر حكمةً
ساعةَ الطوارئ”
لكنها مع هذا ما ألحدت إذ كتبت
“أعرفُ أنّه موجود
في مكانٍ ما، في الصمت
خبأ حياتَهُ النادرة
عن عيوننا الفَظَّة”
“المسيح سيشرح كلَّ ألمٍ على حِدَة”
دأبت منذ عقدها الثالث على لبسِ الأبيض، وإن كان ليس بشكلٍ حازمٍ كما يُشاعُ عنها، لكن بالشكل الكافي لجعلهِ ثابتاً في عقولِ من يصادفونها أو يعرفونها ، فالكاتبة (مابل لوميس تود)، التي حرَرَت مطبوعاتَ أميلي الشعرية، قالت حين لقائِها بها《 إنّها آنسةٌ يدعوها الناسُ بالأسطورةِ…; إنّها ترتدي ملابس بيضاء بالكامل، ويُقالُ أنّ عقلها رائعٌ تماماً》. وفي المرّة الأولى التي التقى بها الناقد تذكرَّ خمسة تفاصيلٍ عنها إحداها ثوبها الأبيض الفاتن. رسائلها كذلك تستحضر اللون الأبيض، فهي تتحدث كفتاةٍ شابة عن حُلُمٍ رأت فيه موتها، فالعيونُ مُسدَلةٌ وعليها فستانٌ أبيضٌ صغير ورقاقةُ ثلجٍ على صدرها
يفسر النقاد ميلها للأبيض لما يوحي من نقاءٍ وتفانٍ روحي وتخلي وهروب من الحياةِ اليومية وتكريس شديد للفن، فيما يعتقد آخرون أنّه رمزٌ للحياةِ الأبدية وخَلقِها لمساحةٍ روحيةٍ خاصةٍ بها بعد رفضها الانضمام لكنيسة العائلة، فالرهبان الفكتوريون والراهبات الدومينيكان كانوا يرتدون الأبيض في ذلك الوقت
لم تكتب أميلي لشهرةٍ أو إعتبارٍ ما، فلم تنشر من قصائدها الألف وسبعمائة تقريباً إلا نحو أحد عشر قصيدة فقط ومنها بأسماءٍ مستعارة. فيما تتناولها الأيدي المعاصرة لجنسانيتها لا شاعريتها وهو ما سُوِّقَت له إعلامياً في الأعوام الأخيرة. إلا أَنّ في قراءة شِعرها جماليةُ استكشافٍ وتنقيبٍ، لكلِّ قراءةٍ رحلةٌ خاصةٌ بعائدٍ جديد وحلاوةٌ لا تقلّ جمالاً، فهي كما يقول أحد النقاد تقود القارئ لتتركه في منتصف الطريق مُكتشِفاً
《أنا لا أحد، من أنت؟》
الكاتب / نور علي
التدقيق والتحرير / فرح منير
المصادر :
–اميلي ديكنسون، مختارات شعرية وقراءات نقدية- نصير فليّح
–The Paris Review- Martha Ackmann