تدمير شعب، ما حصل لنا قبل الغزو.
أكتب هذهِ المقالة في الذكرى العشرين لانطلاق القوات الأمريكية من قواعدها العسكرية المتواجدة بالعراق منذ بداية التسعينات. لم تكن انطلاقتهم لغزو العراق في ٢٠٠٣/٣/١٩ هي أول خطوة للغزو، ولكن ما حصل قبلها بأكثر من عشر سنوات من تدمير للشعب، أجدرَ وأهم بالذكرِ من اجراءاتِ أمريكا للتدمير النهائي لنظام صدام.
تدمير شعب، ما حصل لنا قبل الغزو.
أكتب هذهِ المقالة في الذكرى العشرين لانطلاق القوات الأمريكية من قواعدها العسكرية المتواجدة بالعراق منذ بداية التسعينات.
لم تكن انطلاقتهم لغزو العراق في ٢٠٠٣/٣/١٩ هي أول خطوة للغزو، ولكن ما حصل قبلها بأكثر من عشر سنوات من تدمير للشعب، أجدرَ وأهم بالذكرِ من اجراءاتِ أمريكا للتدمير النهائي لنظام صدام.
ادناه، بعض من مقتطفات تقرير “اللجنة العربية لحقوق الإنسان” حول العقوبات الاقتصادية على العراق.
نوع القصف من ناحية الكمية والأهداف:
أسقطت قوات التحالف ( ١٦ كانون الثاني / يناير و ٢٧ شباط / فبراير ١٩٩١ ) أكثر من مئة ألف طن من القنابل العنقودية والنابالم ومتفجرات الوقود / الهواء وقذائف اليورانيوم الناضب، أي ما يُعادل القوة التفجيرية لسبع قنابل ذرية من النوع الذي أُلقيَ على هيروشيما. وُزِعَّت على العراق برمتهِ، قاصفةً مواقع كثيرة. وأجهزت العمليات العسكرية على البُنى التحتية والهياكل الارتكازية للبلد من جسور وطرقات ومستشفيات وجامعات ومدارس وجوامع وكنائس وأماكن أثرية ومنشآت بريدية وهاتفية ومحطات توليد كهرباء وضخ وتصفية المياه ومصافي وآبار نفط وخطوط وعربات سكك الحديد ومحطات إذاعة وتلفزيون ومنشآت صناعية ومصانع أسمدة ومراكز تجارية ووحدات سكنية وغيرها، قُدِرَت كلفتها بزهاء ١٩٠ مليار دولار حسب صندوق النقد العربي. وقد ظهرَ في ما بعد بأَنَّ النيّة من قصف هذه الأهداف وخصوصاً في مرحلة متأخرة من الحرب، ليس التأثير في سَير الصراع، بل إِحداث أَضرار لتضطر بغداد لتعميرها بمساعدة أجنبية. كذلك كان أحد الأهداف هو نفط العراق وتحويل البلد الى حالة ما قبل الصناعة، كما أعلن وزير الخارجية الأمريكية بيكر في اجتماعه بنائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز في ٩ كانون الثاني / يناير ١٩٩١: “سنُعيدَكم إلى عصر ما قبل الصناعي”.
لقد كانَ القصف ضخماً وعشوائياً وشاملاً للبُنى الأساسية الاجتماعية والتراث الثقافي، حتى إن قُرى منعزلة ومخيمات البدو النائية قد استُهدِفَت، وقد ذَكَرَعن قائد القوة الجوية الأمريكية الجنرال دوغان، أنه طالب جنودهُ باستهداف “ما هو فريد في الثقافة العراقية وما يولى أهمية كبيرة جداً” وطلب معرفة ما لهُ تأثيرٌ نفسي في السكان والنظام في العراق; بحيث يمكن أن تتم مهاجمة المساجد والمراكز الدينية الأُخرى والمواقع الأثرية الشهيرة.
وقد تجاوز عدد الأهداف التي حددها قبل الحرب المخططون العسكريون الأمريكيون، كأهداف استراتيجية ال ٥٧ موقعاً ليصل إلى حوالي ٧٠٠ أثناء الحرب، ما يفوق متطلبات الضرورة العسكرية باعتراف مصادر أمريكية، بما يمكن أن يزيد اعتماد العراق على المساعدات الخارجية بعد الحرب.
تسببَ القصف بقتل آلاف العسكريين والمدنيين العراقيين. وذَكَرت تقديرات بريطانية ومصادر سعودية غير رسميك أنه قُتِلَ زَهاء ١٠٠ ألف جندي عراقي، بينما قَدّرت مصادر فرنسية أن الإصابات بين العسكريين والمدنيين بلغت نحو ١٥٥ ألف إصابة. تقرير تسرب عن وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية، قَدّرَ هو الآخر الإصابات بحوالي ٤٠٠ ألف، في وقت جرت فيه محاولات لإخفاء حقيقة ما جرى عن العالم تضمنت محاولة طرد خبيرة في مكتب إحصاء السكان الأمريكي من عملها; عندما نشرت تقديراتها بأن ١٥٨ ألف عراقي قد قتلوا في الحرب والأحداث التي تلتها.
لم يهتم الإعلام بما فعلهُ سلاح الدمار الشامل في البشر، واستعمال القنابل العنقودية التي تحتوي الواحدة منها على ٢٤٧ قنبلة يدوية تنفجر لآلاف من الشظايا شديدة السرعة، تُمَزق من يقع بطريقها من دون تمييز بين مدني أو عسكري، والتي استعملت ضد سيارات الأجرة والنقل، أو متفجرات الوقود-الهواء التي تنفجر ككُرات نارية ضخمة مسببة “مستويات شبه نووية من التدمير” أو قنابل النابالم التي تَنشر على مساحات واسعة مادتها المحترقة بما يفوق ٨٠٠ درجك مئوية. ويكاد يستحيل اطفاء النوع المُحسن منها، كما لا يمكن إزالتها بسهولة عن اللحم البشري. أما عن تأثيرات قذائف اليورانيوم الناضب المحظورة، وفقاً لقرار صادر عن الأمم المتحدة في كانون الأول / ديسمبر ١٩٧٨ فحدث بلا حرج..!
يروي طيار أمريكي عن القصف، مفادهُ أن الغارات الجوية لقوات التحالف على العراق، كانت “تكاد تشبه إضاءة المصباح في المطبخ ليلاً فتنطلق الصراصير مسرعة فنقتلها”. ويروي طيار آخر قائلاً: “عندما عدتُ، جلستُ على جناح الطائرة ورحت أضحك… أتسلل إلى هناك وأضرب هنا وأضرب هناك. اقترَبَ رجُلً مني ورَبَّتَ كل منّا على ظهر الآخر، ثم قال: “يا إلهي ظننت أننا قصفنا مزرعة، بدا وكأن أحداً قد فتح حظيرة الخراف”.
كانت القوات الأمريكية قد صورت أفلاماً عن هذه المجزرةِ الواسعة، لكن لم يُعرَض معظمها بالطبع. حيثُ حرصت السلطات على اخفاء حجم المجزرة، كما واستبعد الصحافيون من معظم ميادين القتال حتى بعد انتهاء الأعمال الحربية. نُقِلَ عن مسؤولي وزارة الدفاع أن “أكوام الجثث العراقية تدفن في قبور جماعية في الصحراء” ونُقِلَت التقارير أنهُ تم استعمال البلدوزرات “لدفن الآلاف من قتلى العدو في الخنادق اثناء تقدمها” لكن هناك من استطاع أن يصف ما شاهد في مجزرة المطلاع أو مجزرة طريق الجهراء_ام قصر.
من يزور ملجئ العامرية المدني – بدأ العراق بناء الملاجئ بعد ضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي في ٧ حزيران / يونيو ١٩٨١- في الجزء الغربي من بغداد، لا يمكنهُ إِلّا أَن يُكَوّن فكرةً ولو بسيطة، عن حجم المجزرة التي ارتكبتها قوات التحالف بحق المدنيين العراقيين.
لقد أغارت عليه ليلة ١٢-١٣ شباط / فبراير ١٩٩١ حيث كان يأوي عدة مئات من الأطفال والنساء والشيوخ، مستعملة صاروخاً موجهاً بالليزر، أُلقيَ من طائرة من نوع الشَبح، دخلَ من فتحة التهوئة في سقف ملجئ العامرية، وانفجر في مستشفاه.
بعد عدة دقائق، أُطلِقَ صاروخً آخر عَبرَ الفتحة نفسها، بحيث أحدثَ انفجاره إغلاق الأبواب الفولاذية التي تزن أطناناً، متسبباً بقذف ١١ شخصاً خارج الملجئ! منهم من بقيَّ حياً، واحترق المئات المتبقين ممن كانوا في الطابق العلوي، و بتبخرَ الذين كانوا موجودين في الطابق السفلي; ما لم يسمح بالتعرف على جميع الجثث المفحمة أو المُذابة بالماء المَغلي -عدة آلاف درجة حرارية- الذي تدفق من المراجل الضخمة المنفجرة. فما تم استخراجه من البقايا كان بحوالي ٤٠٣ شخص. لكن زَهاء ١٥٠٠ شخص كانوا يسجلون اسماءهم كل ليلة. بقايا من لحوم أولئك الضحايا المتناثرة على الجدران والأسقف، ما زالت ماثلة أمام العيون! تُذَكر بِهَول تلك المجزرة. حيث البعض منهم مجسد بصورة معلقة على حيطان الملجئ.
أكثر هذه الصور لأطفال يبتسمون للحياة والبراءة في وجوههم قبل أن تخطف همجية الكائن البشري شعلة الحياة منهم.
كانت أم غيداء التي فقدت تسعة من عائلتها، ونذرت منذ ذلك الوقت نفسها للملجئ، شاهد عيان على ما حصل تلك الليلة. تشرح لنا ما حدث، وابتسامة غيداء في الصورة وراءها، لا تفارقنا.
إن ما رأيناه في هذا الملجئ مثل صارخ لما حصل في أماكن أخرى كثيرة في العراق. في وصف للويز كينكار نقله جيف سيمونز، نجد ما يلي : “لقد أُعيدَ العراق إلى الوراء قرناً كاملاً; لا كهرباء ولا ماء شرب، بل يعتمد على الماء الملوث. الغذاء والوقود شحيحان، وثمةَ مشاكل نقل وبطالة واسعة الانتشار، وليس هناك دَخِل، ولذا ليس هناك غذاء. ولا يمكن الحصول على الرعاية الطبية والدواء أو لا يمكن الاعتماد عليهما. التضخم شديد والعلاقات البشرية مقطوعة حقاً، وبدا معظم العراقيين مصابين بصعقة صامتة”. لقد تضمن تقرير قدم للأمين العام للأمم المتحدة آنذاك ما يلي: “إن لا شيء كُنّا قد رأيناه أو قرأناه هيَئَنا لهذا النوع الخاص من التدمير الذي حل بالبلاد. لقد أَدى الصراع الأخير إلى نتائج مريعة للبنى الأساسية الاقتصادية، لما كان حتى كانون الثاني / يناير ١٩٩١ مجتمعاً على درجة عالية من التحضر والممكنة.
لقد أُرغِمَ العراق على التراجع لفترة مقبلة من الزمن، إلى عصر ما قبل الصناعي، مع كل معوقات الاعتماد ما بعد العصر الصناعي إلى الاستعمال الواسع للطاقة والتقنية. وقد أكد بريجنسكي – مستشار الأمن القومي السابق لكارتر- بأَنَّ حجم الأضرار في العراق، يُثير السؤال الأخلاقي عن حجم الرد على غزو صدام للكويت.
يُشير جيف سيمونز إلى سياسة الولايات المتحدة بتصعيد التوتر; من أجل تأمين فرص اختبار جيل جديد من الأسلحة. حيث يقول في مقدمة كتابه: “سيطر على النفط وابسط الهيمنة الأمريكية على الأقطار الصعبة، وبِع المزيد من الأسلحة، واختبر أسلحة ونظم اتصالات أكثر، وأوقع الدمار بين الحين والآخر، ثم ارسل المقاولين الأمريكيين واستعمل العتاد، ثم شجع صناعات الأسلحة..
فما أهمية الإبادة الجماعية عندما تصبح هذه الأنشطة التجارية المثيرة، كلها ممكنة؟”.
اليورانيوم وتأثيراته:
إن آلاف الأطنان من المتفجرات التي لم يُستخدم منها سابقاً في النزاعات الدولية كاليورانيوم المنضّب، والتي أُلقيَت على هذا البلد بشكل غير قانوني، تدحض مزاعم الحرب النظيفة، وتُبين أَنَّ تلك الحرب كانت تهدف الإبادة الجماعية للشعب.
فقد اعترف ديفيد ريفكند – وزير الدفاع البريطاني السابق- في ١٩٩٤/١٢/٦ أن القوات البريطانية استخدمت ٨٨ قذيفة ملوثة باليورانيوم الناصب، وأن القوات الأمريكية استخدمت عدداً أكبر من هذا بكثير. فحسب رئيس معهد العلوم والأمن الدولي في واشنطن، تم استخدام ٩٤٠ ألف قذيفة ٣٠ ملم، تحتوي كل منها على ٣٠ ملغرام من اليورانيوم وأربعة آلاف قذيفة عيار ١٢٠ ملم، أي ما يقارب ٣٠٠ طن من اليورانيوم المنصب، ألقتها قوات التحالف في جنوب العراق وشمال الكويت بشكل غبار سام ومشع. كما إن جزءاً كبيراً من هذا الغبار قد نشرته الرياح القادمة من صحراء شبه الجزيرة العربية على مدى عدة كيلومترات.
تقول هيئة الطاقة الذرية، إنَّ الخطر الحقيقي يكمن في كميات اليورانيوم التي تخلفت جراء ضرب وحرق المدرعات العراقية; لأن ذرات اليورانيوم المتطايرة في الجو ستؤدي في حالة استنشاقها الى آثار جسدية غير متوقعة. وأعلن روبن كوك -وزير الخارجية البريطاني- لجوء بلاده إلى استخدام تلك القذائف ضد العراق; لأنها تمتاز بقدرة أكبر من القذائف الاعتيادية على الاختراق والتدمير. لقد جهزت القوات الأمريكية بالكثير من اليورانيوم الناصب الذي هو أرخص طريقة للتخلص من النفايات النووية.
تسبب أشعة اليورانيوم السرطان، ليس فقط لمن يتعرض له مباشرة وإنما لذريته أيضاً; نتيجة نمو الخلايا.
لهذا سُميَ هذا الإشعاع بالنوع الجديد من الموت البطيء. فالدراسات التي أُجريت على الأحياء بعد سقوط القنابل على هيروشيما، بينت الضرر الذي ظهرَ على الأطفال الذين كانوا على مسافات بعيدة من نقطة الصفر والذين كان تعرضهم للإشعاع قليلاً جداً. الجدير بالملاحظة، أن مكتب السكان الأمريكي كان قد قدرَ عام ١٩٩٢ أن معدل عمر العراقيين قد هبط ٢٠ سنة للرجال و ١١ سنة للنساء، والتلوث الإشعاعي أسهم في هذا الوضع.
إِلا أَنَّ تقرير قد صدر سنة ١٩٩١ مفاده أنَّ وفيات الأطفال دون سن الخامسة قد تضاعف خمس مرات تقريباً خلال عدة أشهر، حيث أن هؤلاء الأطفال يشبهون الناجين من قنبلة هيروشيما ويتصفون بالخمول ويفتقرون إلى الإحساس. تشير دراسة أعدها عام ١٩٩٣ عدد من المختصين الأمريكان، أن من المحتمل بأَن يكون ١٥٠ ألف طفل عراقي قد توفوا منذ عام ١٩٩١ نتيجة أمراض مختلفة، من بينها السرطان وعجز الكليتين وأمراض باطنية غير معروفة سابقاً، سببها اليورانيوم المستنفذ. فقد ظهرت إصابات بمرض السكري بين الأطفال نتيجة الصدمات النفسية. ولوحظ ظهور مرض مجهول التشخيص لم يكن معروفاً سابقاً، من أعراضه: تشوه الرؤيا في إحدى العينين مع نوبات صداع شديدة وخدر في اليدين. كما لوحظت زيادة غير طبيعية بأمراض سرطان الدم وسرطان الرئة والجهاز الهضمي والجلد وزيادة حالات مرضية غريبة تمثلت في التشوهات الخلقية للأجنة، كوجود أعضاء إضافية غير طبيعية وولادات حية برأس منتفخ أو من دون رأس مع إصابات في العين أو اختفاء العين كلياً وسقوط الشعر وأمراض جلدية مختلفة. ذلك إلى جانب ارتفاع أعداد المصابين بنوبات الدوار الوبائي والدوار الشديد المصحوب بالغثيان وفقدان التوازن وأمراض العقم لكلا الجنسين، وزيادة حالات الإسقاط والولادات الميتة المبكرة وعسر الولادة.
ذكرت مجلة غالوي الاسكتلندية في ١٩٩٨/٧/٨ أَنَّ الإصابة بأمراض السرطان المختلفة وبخاصة سرطان الدم “اللوكيميا” لدى الأطفال في العراق، قد تضاعفت بنسبة ٦٠٠ في المئة منذ عام ١٩٩١ نتيجة استخدام أمريكا وبريطانيا اليورانيوم الناصب. وأشارت إلى أن معظم الإصابات بالسرطان وقعت لأطفال ولدوا بعد انتهاء العمليات العسكرية، حيث إن غبار اليورانيوم الناضب قد لوث المياه والحقول والمزارع في العراق. كذلك لوحظ وجود تغيير في الخط الوبائي للإصابة بالأورام السرطانية كما تبين أن هناك تغييراً في الفئات العمرية المتوقعة للإصابة بهِ، وشملت فئات عمرية مبكرة منها الفئة بين ٤٥ و ٥٠ سنة.
إن النتائج الكارثية لهذه الأسلحة على الإنسان والبيئة تستمر بالظهور مع مرور الوقت، حيث تحول جزء لا بأس به من هذا البلد (أساساً مناطق العمليات العسكرية في المحافظات البصرة، ميسان، ذي قار) إلى بيئة ملوثة ونشيطة إشعاعيا. فالتلوث الذي أصاب التربة يستمر مع عمر الأرض. وحيث إن الأمراض والظواهر التي يسببها التعرض لليورانيوم المنضب تمتد حسب فترة الكمون، فبعض الأمراض يتوقع لها أن تظهر سنة ٢٠٠٥ بينما قسم منها سيمتد إلى سنة ٢٠٢٥ وقسم آخر يمتد حتى سنة ٢٠٤٠
العراق في ظل الحصار: الوضع المعيشي
إن العراق اليوم كما وصفه بعض المراقبين وكما رأيناه، أشبه بمعسكر احتجاز واسع. مَنسي من العالم ومحروم من وسائل الحياة على المدى المنظور; بسبب العقوبات الإلزامية التي تعد الأكثر شمولاً والتي لم يسبق لها مثيل بتاريخ العقوبات. اتخذتها الولايات المتحدة منذ ٢ آب / أغسطس ١٩٩٠ ثم قوتها بقرار مجلس الأمن ٦٦١ في ٦ آب / أغسطس الذي تضمن إعلان المقاطعة التجارية والمالية والاقتصادية والعسكرية الشاملة. وما زال هذا القرار ساري المفعول إلى اليوم رغم تحقق الانسحاب العراقي غير المشروط من الكويت كما تضمن القرار. لقد فرضت الإجراءات العقابية حظراً شاملاً على جميع صادرات العراق ومستورداته من البضائع والخدمات كافة، مجمدة الأرصدة العراقية في الخارج، ومحَظّرة بيع النفط. وبضغط من الولايات المتحدة، تَبنى مجلس الأمن في ٢٥ آب / أغسطس القرار ٦٦٥ وأنشأ حصاراً بحرياً لتقوية فاعلية نظام العقوبات. حيث أجاز استخدام القوة لغرض احترام الحظر على العراق طبقاً للقرار ٦٦١. وبعد شهر شدد من الحظر وقرر تطبيق القرار ٦٦١ ليشمل جميع وسائط النقل بما فيها الطائرات. حيث إن “الحظر” في هذه الحال يعد إجراء حرب ويتطلب تخويلاً محدداً بمقتضى المادة ٤٢ من ميثاق الأمم المتحدة، فقد تم التغلب على العقبة القانونية بالمراوغة واللجوء إلى مفهوم “المنع”. كذلك اتخذت إجراءات لمنع الوكالات الدولية من تقديم المساعدات الضرورية ومن التحقيق في الأزمة الصحية المتفاقمة رغم أن القرار ٦٦٦ الصادر في ٤ أيلول / سبتمبر ١٩٩٠ أجازها وطلب نقل وتوزيع المساعدات الإنسانية إلى العراق والكويت عن طريق الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
لقد أَجهَزَ الحصار الذي هو شكل آخر للحرب غير المسلحة والصامتة والمضنية، على هذا البلد بشكل مروع. ألم يقل يوماً الرئيس وودرو ويلسون: “كلا ليس الحرب، بل شيء آخر أكثر هولاً من الحرب. طبقوا هذا العلاج الاقتصادي السلمي الصامت القاتل ولن تعود هناك حاجة إلى القوة. المقاطعة هي البديل عن الحرب”
إن الذين توفوا نتيجة الحصار من الشعب العراقي، أكثر من الذين قضوا بسبب العمليات العسكرية. كان النقل الجوي والبحري قد مُنِعَ، وتوقفت بسبب الحرب أعمال الإعمار والصيانة وخطط التنمية. وقد تدهور نتيجة ذلك مستوى المعيشة بشكل حاد عما كان عليه قبل ١٩٩٩ وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بحدود الثلثين عام ١٩٩١ نتيجة انخفاض إنتاج النفط بنسبة ٨٥ في المئة وتدمير قطاعي الصناعة والخدمات.
بلغ حجم التضخم في نهاية ١٩٩٤ (٢٤٠٠٠%) سنوياً. وفي الحين الذي تُقَدر فيه حاجة الفرد كحد أدنى يومياً ب٢٣٠٦ سعرة حرارية، انخفض معدل السعرات الحرارية من ٣١٢٠ سعرة قبل الحرب إلى ١٠٣٩ سعرة في عام ١٩٩٤_١٩٩٥. بالمقابل، ارتفع معدل أسعار السلع الأساسية في المحلات إلى ٨٥٠ مرة أكثر بين ١٩٩٠ و ١٩٩٥. أما المخازن المركزية فقد أُلغيت، والمعامل المتبقية تحتاج إلى مواد أولية وطاقة ومواطن له قدرة شرائية، وأين لها بذلك مع تدني الأجور وتسريح قطاع ضخم من العمال والموظفين وتضخم البطالة؟!
فالتباينات تعمقت بين فئات الشعب، كما ظهرت أسواق مرتجلة على أرصفة بغداد بائعوها كانوا ممن ينتمون إلى الطبقة المتوسطة. بضاعتهم هي مكتباتهم الخاصة ومدخراتهم وأمتعتهم الشخصية من القطع الثمينة وأواني المطبخ والملابس وغيرها.. فالبطاقة التموينية لا تحتوي إِلا على الأساسيات من طحين وسكر ورز وزيت وحليب للأطفال دون السنة، وأحياناً على بيض ودجاجة (بالإضافة للشاي والمساحيق والصابون) وهي إِن منعت من حدوث مجاعة، إِلا إِنها لا تكفي العائلة لشهر. كما لم تستطع أن تحّد من زيادة نسبة سوء التغذية; فالحصة التموينية اليوم لم تعدى سوى ثلث نسبة السعرات الحرارية والبروتين مقارنة بما كان يحصل عليه الفرد قبل الحصار بسبب تناقض كمية الحبوب الممكن توفيرها.
تفتقر السلة الغذائية إلى عدد من الأملاح والفيتامينات خصوصاً الحديد وفيتامينات ( أ- و- ث) كذلك لا يتم الاعتماد على البروتينات الحيوانية; حيث إِن أسعار اللحوم والأسماك أغلى من القدرة الشرائية لمعظم العائلات العراقية، ما يجعل النظام الغذائي مفتقراً للحامض الأميني الضروري للنمو. هذا الوضع عرض للخطر ٣،٥ مليون شخص نصفهم أطفال وأكثر من مئتي ألف امرأة حامل أو مُرضِع، متسبباً بالتالي ولادة الكثير من الأطفال المعوقين.
الوضع الاجتماعي:
إن الخطير في الآثار السلبية للحصار هو طبعها التراكمي وامتداد تأثيرها في كل القطاعات الأخرى. وقد أدى ذلك إلى خلل كبير في النسج الاقتصادية. إن تَسريح ما يقارب ثلثي القوة العاملة نتيجة توقف المشاريع في القطاعات الحكومية والأهلية، سجلت زيادة كبيرة في نسبِ البطالة ما ساهمَ بتمزق الحياة العائلية. وكَثُرَت ظواهر العنف الاجتماعي والرشوة والسرقة والتهريب والمضاربات والانتحار وجنوح الأحداث والبغاء، وما شابه ذلك من علامات انهيار وتفكك اجتماعي.
أشارت دراسة أُجريَت سنة ١٩٩٣ في محافظة بغداد تناولت عينة من ٢٠٠٠ طفل وطفلة من ٥٠ مدرسة ابتدائية تتراوح اعمارهم بين ٦ و ١٥ سنة إلى معاناة الأطفال في التركيز والانتباه والاستيعاب والتذكر والفهم، وإلى ارتفاع نسبة عدم اداء الواجبات المدرسية وعدم تحمل المسؤولية والهروب من المدرسة. ذلك إضافة إلى ازدياد حالات السرقة بنسبة أكثر من مئتين في المئة محتلة المرتبة الأولى بين الظواهر النفسية التي بَرزت في ظروف الحصار، خصوصاً سرقة النقود والمأكولات والمستلزمات المدرسية; بسبب الحرمان المادي والغذائي وشعور الطفل بالحاجة للإشباع الفوري لحاجته. كما ازدادت حدة إساءة معاملة الأسرة للطفل والمشاكل الأسرية بين الأهل التي غالباً ما تؤدي إلى جنوح الأطفال وشعورهم بالحرمان النفسي وعدم الاستقرار وغيره. أَظهرت الدراسة هذه أيضاً بأَنَّ ٣٦% من العينة يأتون إلى المدرسة من دون أن يكونوا قد تناولوا وجبة طعام الفطور، في حين أَن ٣٠% من الذين يبدئون دوامهم بعد الظهر لم يتناولوا وجبة الغذاء الكافي، و ١٠% لم يتناولوا وجبَتيّ طعام تِباعاً. وأشارَ الأطفال المعنيين بالدراسة، أَنَّ السبب هو عدم كفاية الطعام لدى أُسَرَهم، وسوء نوعية الطعام الذي يُقَدم لهم. حيث إِنَّ ٧٦% منهم ذهبوا إلى المدرسة من دون أَن يحملوا معهم سندويشاً لتعويض الفطور. أما الذين تناولوا فطوراً فقد اقتصر طعام ٥٨% منهم على كوب شاي من دون أو مع شيء من الخبز.
من ناحية أُخرى، تَجدُر الإشارة إلى أَن مواقع العراق الأثرية القديمة التي تمثل حضارته العريقة ومتاحفه قد تعرضت لأضرار جسيمة جراء القصف وصعوبات الصيانة والترميم. كما وسرقت مجموعة آثار لا تقدر بثمن من مواقع كثيرة. لقد سقطت على سبيل المثال- بسبب القصف- بعض الأجزاء من طاق كسرى -أكبر وأقدم قوس مشيد من الآجر في العالم- حيث نَصت على مقربة منه مدفعية مضادة للطائرات، فباتَ يُهَدد بالانهيار. كما ونهبت ودمرت في المحافظات ٨ من المتاحف وفقدت ٨٥٠٠ قطعة أثرية وحوالي ألفي مخطوطة ثمينة. وقعت السرقات في كثير من المواقع النائية (اوروك، نفر، تل أم العقارب، تل جوخة) كما أشير إلى أن أصحاب المجموعات الخاصة في الولايات المتحدة يحصلون على الآثار العراقية، ما استدعى احتجاج العراق الذي لم يسترجع إلا القليل من آثاره المنهوبة.
من جهة أُخرى، تؤدي البطالة وانخفاض الرواتب حملة الشهادات إلى ترك وظائفهم والهجرة إلى خارج البلد أو البحث عن وظائف أخرى تَدُرُ دخلاً أفضل أو اضافي، كسائقي تكسي مثلاً. فحسب شهادة مدرس جامعي “إذا كان راتب الأستاذ الجامعي ٦٠٠ دولاراً في الشهر قبل الحصار هو اليوم لا يعدو ١٥ دولاراً. ولذا عليه أن يزيد عمله من الفترات الصباحية إلى فترات مسائية أيضاً كي يضاعف الرقم بما يسمح له بالبقاء نظيفاً ومحافظاً على كرامته (…..) لقد أصبحت هجرة العقول كبيرة والأغلبية التي تأخذ طريق عمان هي من حملة الشهادات، وهذا ما يريدونه لنا: إفراغ هذا البلد من عقوله، فقد وزّعت الولايات المتحدة واستراليا ونيوزلندا وكندا استمارات على أساتذة الجامعات العراقيين لطلب الهجرة”.
من الضروري الإشارة هنا إلى أنه بالإضافة لتأثير الحصار على الهجرة خارج العراق، توجد حوافز داخلية لها، كالسياسة التسلطية وانعدام الحريات وعدم توفر المستلزمات الضرورية للبحث الأكاديمي وبخاصة الحرية الفكرية، ناهيك ببعض العراقيل الإدارية والبيروقراطية واستخدام معايير الولاء قبل الكفاءة في التقويم وفي المناصب العليا. لقد استمرت في ظل الحصار حملات التنكيل بالمعارضة والتصفية الجسدية للخصوم، كما تشير تقارير لمنظمات حقوق الإنسان الدولية. وعليهِ، يُقَدر عدد الذين هاجروا وهَجّروا بحوالي مليونين ونصف المليون شخص، منهم من يعبر الحدود عن طريق “التسريب” عبر الشمال نتيجة العراقيل التي وضعت لمنع الهجرة.
الوضع الصحي:
لقد أثّرت العقوبات عَقب تدمير المنشآت الطبية بشكل كبير في العراقيين وبشكل خاص في الأطفال والرضع. ففي حين كان معدل وفيات الأطفال الرضع ٤٧ حالة لكل ألف ولادة حية بين الأعوام ١٩٨٤-١٩٨٩ أصلحت النسبة ١٠٨ وفاة بين الأعوام ١٩٩٤_١٩٩٩ حسب تقرير منظمة الصحة العالمية الصادرة في تموز / يوليو ١٩٩٩ والذي تضمن مسحاً لوفيات الأطفال والأمهات في جميع انحاء العراق. تضاعفت كذلك وفيات الأطفال تحت سن الخامسة من ٥٦ حالة لكل ألف ولادة حية إلى ١٣١ خلال الأعوام نفسها. ويشير التقرير إلى أن أسباب التردي هذا تعود إلى نقص المواد الغذائية والدوائية وازدياد حالات الإصابة بالأمراض الانتقالية وعدم توافر المستلزمات الكافية لمعالجة هذه الأمراض. إضافة إلى عدم توافر وسائل معالجة كافية ووقاية النساء الحوامل من الأمراض التي تصيب الأطفال. لقد أظهرت المسوحات ارتفاع عدد المواليد الذي يقل وزنهم عن ٢،٥ كغم إلى ٢٤،٨ في المئة سنة ١٩٩٨ بسبب سوء التغذية، التي من مؤشراتها توقف النمو ونقص الوزن والهزال. كما إن أمراضاً انتقالية كان قد تم القضاء عليها في العراق، وكان يمكن منع حدوثها مثل: أمراض شلل الأطفال والكوليرا والجرب والتيفوئيد والحصبة وذات الرئة والتهاب الكبد الفيروسي والملاريا، والخّناق قد عاودت الانتشار بسبب النقص الكبير في اللقاحات المضادة التي كانت تُستَورد.
وأصبحت الأمراض البسيطة نسبياً قاتلة.
كما وذكرت حالات موت أطفال رُضع بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن الحاضنات، بينما ينمو آخرون وهم مصابون بالشلل الارتجافي بسبب عدم كفاية الأوكسجين. وارتفعت نسبة أمراض المعدة والامعاء وجفاف الماء في الجسم وسوء التغذية. وارتفع عدد المرضى النفسيين والمصابين بضغط الدم وبمرض السكري والأمراض الخطيرة، منها أمراض القلب والسرطان وغيرها، التي لم تعد تَلقى العلاج اللازم. كما وانخفضت نوعية أداء العاملين في المستشفيات وخفَ عددهم بسبب الضغط والإرهاق وتردّي الرواتب.
لقد كان العراق قبل الحصار يستورد من الأدوية بقيمة ٥٠٠ مليون دولار سنوياً ما عدا التجهيزات الطبية الأخرى. مع فرض العقوبات الاقتصادية وتدهور الوضع الصحي بشكل كارثي، حيث كان محظوراً على العراق شراء واستيراد أي أدوية ومعدات طبية. ورغم الاستثناء “عادة تجهيزات للأغراض الطبية حصراً” للقرار ٦٦١، فقد رفضت شركات أدوية كثيرة بيع منتجاتها إلى العراق; إِثرَ التهديد الأمريكي لها. حتى أنه تم احتجاز شحنات أدوية ومنتجات طبية وحليب الأطفال، كان العراق قد دفع ثمنها قبل آب / أغسطس عام ١٩٩٠. لقد حظر على العراق استيراد قطع غيار المعدات والحاضنات ووحدات العناية المركزة ورقائق أشعة اكس، كذلك الحبر والورق من جُملة ما مُنِع.
وأصبحت المستشفيات التي لم تُغلَق، تعمل بأقل من
لقد كانا منظر الأطفال الذين يصارعون الموت المرميين على أَسرّة قسم الطوارئ وحولهم أهل، لا حول لهم ولا قوة! أقسى مما يمكن أن يتحملها امرؤ يشعر إزاء هكذا وضع بمزيد من العجز والسخط والذنب لما يحصل في هذا البلد.
إلى هذا الجانب، أشار تقرير صدرَ في منتصف ١٩٩١ لفريق من علماء نفس الطفل من جامعة هارفارد المختصين بالحروب، بأَنَّ أطفال العراق يعانون من مجموعة اضطرابات عاطفية أو فكرية واشكالات في النوم والتركيز، وهم أكثر معاناة مما عداهم من الأطفال، حتى أولئك الذين يعيشون في مناطق صراع. لقد استنتجوا أن أغلبيتهم سيعانون من مشكلات نفسية شديدة في حياتهم، وطالبوا ببذل جهود وطنية ودولية واسعة لمساعدة أطفال العراق. ووصف خبير منهم بصدمات الأطفال أولئك الذين إِلتقى بهم مرة ثانية بعد عدة أشهر من زيارته الأولى لهم، بأنهم مصابون بصدمة شديدة، وأن مقدار معاناتهم لم ينقص منذ الكشف الأول: “فهم محاصرون داخل صدمتهم ومحاطون بما يذكرهم بما حدث بحيث يبدو الزمن كمن توقف بالنسبة إليهم، وتبدو أذهانهم مثل أرض من الحفر الذهنية والتدمير.. ويتوقعون أن يحدث ما هو أسوء”
التأثيرات في البيئة والثروة الحيوانية :-
لقد تناثرت جراء حرب الخليج في الصحراء العراقية الكويتية وفي مواقع مدنية كثيرة، ألغام وذخائر غير منفجرة، وأسلحة محطمة وملوثات كيماوية بما يشكل اخطاراً جمة على الأطفال بخاصة. ليس فقط بسبب التلوث البيئي عبر الهواء والماء والنبات، وإنما أيضاً بسبب الذخيرة غير المنفجرة التي تتسبب بالوفيات وببتر الأطراف واستعمال القذائف الفارغة والدبابات المدمرة والملوثة باليورانيوم كلعب من قبل الأطفال. ورغم أَن القنابل النووية لم تستعمل في هذه الحرب، كان هناك توجيهات باستعمال الأسلحة النووية والكيميائية ضد العراق، لكن ضرب المفاعل النووي العراقي قد أحدث إطلاق إشعاعات في الفضاء، بما يسببه ذلك من خطر التلوث الإشعاعي حتى في الاجيال القادمة. كما أَن أسلحة كيميائية قد استُعمِلَت كُشِفَ عنها من خلال فحوصات نماذج من النبات والماء والدم والبول. لقد عانى ضحايا الهجمات الكيميائية من الآم في الصدر والمعدة والتقيؤ، مع وجود دم ودوار وتلف في البصر وتقرّح في الجلد وغيرها من أعراض. منع الحصار استيراد المواد التي يمكن بمساعدتها إزالة آثار هذا العدوان ومكافحة تسرب السموم والأدخنة من مبيدات كيميائية وأجهزة رَش ومضخات وطائرات زراعية. وكان نتيجة ذلك القضاء على ثروات العراق الزراعية والصناعية والحيوانية. لقد أُشيرَ إلى تدمير ١٦١٣ هكتار من الأراضي الزراعية، وإلى زيادة كبيرة في الآفات التي تصيب الحمضيات والنخيل والرمان والطماطم، وفقدان عشرات الآلاف من أشجار الكاليبتوس. كما لوحظت كثافات عالية من الهيدروكربونات في مساحات واسعة تبعد مئات الأميال عن الحرائق الذي سببها القصف.
سرقة الآثار من قِبَل الأمريكان والصهاينة بعد دخولهم بغداد:
في ١٠ نيسان / أبريل ٢٠٠٣، وبينما كانت بغداد تعيش الفوضى وغياب الدولة، قامت مجموعة من ٤٠٠ مسلح باقتحام المتحف العراقي وسط بغداد، تحت أنظار دبابة أميركية تبعد ٧٠ متراً. هاجمت المجموعة ثلاث أماكن محددة في مخازن التحف الأثرية، وسرقت آثاراً وتحفاً محددة، وفضلاً عن السجلات والوثائق الخاصة بالآثار السومرية والبابلية. مدير المتحف العراقي آنذاك (الدكتور دوني جورج) قال إن التحقيقات التي اجراها وزملاؤه المختصون أثبتت أَن السرقة كانت عملية منظمة وليست عشوائية، أو جزءاً من حوادث النهب في بغداد، وأن من قام بها مافيا كبيرة، وأن هناك تحضيراً وترتيباً مُسبقاً. مُستشهداً بالقول “إن هناك قطعاً أثرية عديدة وصلت بعد أقل من أسبوعين من السرقة إلى أميركا وأوربا، وهي فترة قياسية تدل على أن من قام بذلك مافيا منظمة وكبيرة جداً” مُضيفاً أن “اللصوص فتحوا خزانة كان فيها مجاميع من الأختام الأثرية، لكنهم اختاروا منها ٩ قطع فقط وهي الأغلى، فاستنتجنا أن هناك تحضيراً وترتيباً مُسبقاً للسرقة”.
مشهد آخر من سرقة الصهاينة للآثار العراقية:
بعد الغزو بأيام توجهت قوة عسكرية من “التحالف”، بقيادة ضابط برتبة عقيد لا تعرف هويته على وجه التحديد، إلى مرقد النبي “ذي الكفل” (حزقيل بحسب التسمية اليهودية) الواقع في المدينة المسماة باسمه في جنوب محافظة بابل، على بعد نحو ١٠٠ كيلومتر جنوب بغداد.
دخلت القوة إلى المَبنى القديم للمرقد الذي بُنِيَت قبتهُ على الطرازِ السلجوقي في بداية القرن الرابع عشر الميلادي خلال العصر الإيلخاني، وهناك قاموا بالتوجه فوراً نحو لوحة من المرمر، مُعلَقة على أحد الجدران تحوي كتابات باللغة العبّرية، واقتلعوها من مكانها قبل أن يأخذوها معهم بكل عناية إلى مكان مجهول.
كان ذو الكفل أحد أنبياء اليهود. وقد اقتادهُ ملك بابل – نبوخذ نصر- مع الآلاف من بَني قومه، إلى بابل، بعد تدميره مملكة (يهوذا) في موقع القدس الحالية، خلال السبي البابلي الأول قبل نحو ٦٢ قرناً ومات في بابل.
يقول حارس المرقد إنه لم يتمكن من الاعتراض على سرقة اللوحة المرمرية أو حتى توجيه أي سؤال للقوة العسكرية، واكتفى بالصمت والمراقبة. وبعد نحو شهرين من الواقعة حينما زرت ذلك المرقد، كان موقع اللوحة على الحائط ما زال فارغاً وواضحاً، ولم يعرف أحد منذ ذلك الحين أين ذهبت اللوحة أو تاريخها وأهميتها لسارقيها أو العبارة التي كانت تحويها. وعلى بعد نحو ٣٠ كيلومتراً شمال المرقد، وفي مدينة بابل الأثرية حيث موقع الحضارة العراقية القديمة التي ما زالت عدوّاً لدوداً في الميراث اليهودي،
استقرت القوة العسكرية البولندية التي شاركت في الغزو. لم يكن طبيعياً أن تعسكر قوة مدرعة فوق مدينة أثرية ذات أصول طينية، لا تحتمل ثقل المدرعات أو عبث الجنود. لكن القوة بقيت هناك سنوات عديدة لسبب بقيَ غير معروف، لولا شائعات كانت تتردد بين العراقيين عن بعثات تنقيب إسرائيلية، واصلت التردد نحو بابل بحماية القوة البولندية “الصديقة” لإسرائيل، للبحث عن مخلفات اليهود الذين كتبوا التلمود هناك خلال سنوات الأَسر لدى البابليين بحسب الروايات اليهودية.
وفي الوقت نفسه قامت القوات الأميركية بدخول مبنى المخابرات العراقية والاستيلاء على الأرشيف اليهودي العراقي المحفوظ في المَبنى، بإشراف ممثل وزارة الدفاع الأميركية الدكتور إسماعيل حجارة، الذي نقل الأرشيف إلى خارج العراق. ولم يعلن العراق قط بعد ذلك إعادة الأرشيف اليهودي إليه كما اقتضى الاتفاق مع الولايات المتحدة. لكن في مَطلع عام ٢٠١٥، أقامت إسرائيل احتفالاً كشفت فيه لأول مرة عن أَن نسخة تاريخية من التوراة وصلتها من العراق، وأن ذلك ظل قيد الكتمان منذ عام ٢٠٠٣. وكانت هذه النسخة هي ذاتها الأرشيف الذي أخذهُ الأميركيون.
أيضاً من مشاهد سرقات الاحتلال، الأموال والذهب والآثار، سواء التابع للدولة أو للأفراد.
وفي الأسبوع الأول من الاحتلال أيضاً، دخل البنك المركزي العراقي قائد كبير من المارينز بصحبة جنوده، وتوجه فوراً نحو أحد الأقبية بصحبة مسؤولين من البنك، ليطّلع هناك على أسطورة كان من الواضح أنها بلغت واشنطن. كان الأمر يتعلق بكنز نمرود الأثري، وهو كنز نادر عمره ٣٠٠٠ سنة ويضم ٦٥٠ قطعة ذهبية لا تُقَدر بثمن، ويعود إلى مَلِكَتين آشوريتين، دُفِنَ معهما بعد موتهما في القصر الشمالي الغربي للملك آشور ناصر بال الثاني في نمرود بالموصل. كانت بعثة أثرية عراقية اكتشفت الكنز في عام ١٩٨٨، وأمر الرئيس صدام حسين بحفظه في القبو المحصن للبنك المركزي العراقي لضمان حمايته.
ظهر الكنز أواخر عام ٢٠٠٣ في مَعرض حضرهُ الحاكم المدني الأميركي ( بول بريمر) لكن ذكرهُ غاب بعد ذلك!
ويَدّعي المسؤولون العراقيون أَنَّ الكنز ما زال في مكانهِ بالبنك المركزي، لكن أحداً لم يشاهدهُ منذ عام ٢٠٠٣، كما أَن أحداً لم يهتم بدحضِ الشائعات عن سرقتهِ من قِبَل الأميركيين.
لم تكن هذهِ الوقائع منعزلة. فعمليات النهب المريبة للتراث الوطني العراقي لم تتوقف قط. ومشاهد الجنود الأميركيين في إحدى قاعات القصر الجمهوري لم تكن سوية، وهم يلعبون بكرة ورقية صنعوها من أوراق عملة من فئة المئة دولار كانت خاصة بالخزانة العامة، كما صار شائعاً أن يقوم الجنود الأميركيون بسرقة أموال أو حلّي ذهبية من بيوت المدنيين العراقيين حينما بدأت حملاتهم بالدهم والتفتيش بحثاً عن المقاومين.
صار هذا النموذج من التلاعب بأموال الدولة وثروات الشعب وتراثهُ الوطني وكنوزهُ التاريخية جزءاً من مظاهر الاحتلال.
ولم يكن في وارد الأميركيين حفظ المال العام لبلد أجنبي أكثر من كسب الولاء للسيطرة عليه، لذلك أتاحوا نقل هذا “النموذج” إلى مَن تَعاون معهم من العراقيين، وإلى السياسيين والمسؤولين “الجدد” الذين كانوا غالبيتهم على استعداد أصيل للتعامل مع السلطة على إِنها “فرصة” للتربح والنفوذ الحزبي أو الشخصي. وهكذا تطور نموذج “اللصوصية” الأميركي ليتحول في عهود الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الغزو إلى ظاهرة فساد شامل صارت جزءاً لا يتجزأ من هوية “العراق الجديد”.
قسوة الحصار الجائر ومنعه سفاسف الأمور عن الشعب:
تتحدث عراقية مُقيمة في بريطانيا في فترة الحصار على العراق، أنها في ٦ كانون الأول / ديسمبر ١٩٩٥ أَرسَلَت إلى ابناء وبنات اخوتها في الموصل، مغلفاً مبطناً فيه علبة أقلام رصاص وثلاث مَماحٍ وثلاث مَبارٍ وستة أقلام حبر، وقلما تأشير، وإصبعا صمغ وقلمان جاف. وكتبت على المغلف عبارة “هدية أطفال”. وأُعيد المغلف إليهاً مكتوب عليه عبارة: “بسبب العقوبات الدولية على العراق، لا يمكننا إرسال رزمتك إلى العنوان المذكور”. وقيل لها أن تتصل بدائرة التجارة والصناعة البريطانية للحصول على المزيد من المعلومات.
(الجمعة ١٩٩٤/١٠/٢١)
أعلن تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لرعاية الطفولة في بغداد (اليونيسيف) عن وفاة ٣٣٩٦٧ طفلاً عراقياً خلال الربع الأول من العام الحالي، نتيجة النقص في الغذاء والدواء بسبب الحصار المفروض على العراق (الشعب، القاهرة).
(الاثنين ١٩٩٧/١٢/١)
أُقيمَ في بغداد جنازة جماعية لسبعين طفلاً قضوا نتيجة النقص في الأدوية بسبب الحصار المفروض على العراق (النهار، بيروت).
(الثلاثاء ١٩٩٨/٣/٣)
شَيّعَ العراق ٣٣ طفلاً في جنازة جماعية في بغداد قضوا نتيجة النقص في الغذاء والدواء بسبب الحصار (النهار، بيروت).
(الثلاثاء ١٩٩٨/٤/١٤)
شَيعت بغداد ٢٩ طفلاً قضوا نتيجة نقص في الدواء والغذاء الناجمين عن استمرار الحصار على العراق منذ العام ١٩٩٠ (السفير، بيروت).
(الثلاثاء ١٩٩٨/٥/٥)
شَيّعَ العراقيون ٥٢ طفلاً قضوا نتيجة نقص الدواء والأغذية بسبب الحصار المفروض على العراق (السفير، بيروت).
(الأحد ١٩٩٩/١٠/١٧ )
أعلنت وزارة الصحة العراقية عن وفاة ٨٩٦٦ عراقياً بينهم ٦٥٦٩ طفلاً في أيلول / سبتمبر الماضي نتيجة الحصار (الحياة، لندن).
(الأحد ٢٠٠٠/٧/٢)
أعلنت بغداد عن حصيلة جديدة لضحايا العقوبات المفروضة على العراق منذ العام ١٩٩٠، وذكر إحصاء عراقي رسمي أن عدد الضحايا العراقيين ارتفع إلى مليون و ٣٥١ ألفاً و ٥٣٥ شخصاً (النهار، بيروت).
(الأربعاء ٢٠٠٢/٢/٦)
أعلنت وزارة الصحة العراقية عن حصيلة جديدة للوفيات في العراق بسبب الحصار. وذكر بيان صادر عن الوزارة أن عدد الوفيات وصل إلى المليون و ٦٢٩ ألف عراقية بينهم ٦٧٤٧٨٠ طفلاً (دون الخامسة من عمرهم) وذلك منذ فرض الحصار عام ١٩٩٠ ولغاية نهاية العام الماضي ٢٠٠١ (القدس، العربي، لندن).
هكذا كان الحال في ظل السيطرة الخارجية لأمريكا على وضع العراق لمدة ١٣ سنة قبل غزوه; تحديد ما يسمح دخوله وتدمير ما هو موجود في الداخل ولا ترغب به! إذ كانت تمنع دخول حليب الأطفال وعلاجات الأمراض البسيطة مثل الإنفلونزا والإسهال، وتمنع دخول الأقلام. وفي النهاية أدخلت قواتها الغازّية للعراق بحجّة تواجد أسلحة الدمار الشامل، واعترفت لاحقاً بعدم وجودها. تكفلت أمريكا بتجويع الشعب وسرقة آثاره ونهب أمواله وقتل أطفاله جوعاً، وقصف المدني والعسكري. واعترفت القوة الجوية الأمريكية أَنها حددت ٥٧ هدفاً فقط صالح للاستهداف، لكن بعد الانتهاء من عملياتها العسكرية تبين أنها استهدفت ٧٠٠ بدل ال ٥٧ وإلى هذا اليوم، لا نعرف حقاً جميع ما جرى. إذ أَن هيئة الطاقة الذرية اعترفت بأَن مخلفات اليورانيوم الذي قصفت به أمريكا أراضينا ستستمر بالإضرار بالسكان حتى عام ٢٠٤٠ على الأقل. المشكلة أَن تأثير هذه الأسلحة لن يكون مباشر فقط، ولكن يؤثر حتى على أولاد الذين تعرضوا لها. تخيل أن أمريكا استطاعت أن تجعل الأطفال والشباب فاقدين للتركيز غير مهتمين بأداء الواجبات المُكَلفين بها جعلتهم أكثر كسلاً ومللاً وأقل تركيزاً وإدراكاً. وهي إلى هذا اليوم مستمرة بضرب الشعوب ضرباتٍ موجعة لا يشترط أن تكون عسكرية مباشرة لكن بث الأفكار التدميرية والاستنقاص من قيمة الجماعة وتفكيك الروابط الأسرية ودعم المثلية الجنسية والحركات النسوية والإلحادية وإظهار الدين بصورة الإرهاب والتخلف والقومية بصورة الرجعية والجهل. لكن أستذكر آخراً قول الإمام علي (الغالب بالشر مغلوب)
كما حصل لنا سيحصل لهم أضعافاً مضاعفة (وإنما النصر صبر ساعة).
الكاتب | زيد الإمام
التدقيق والتحرير | فاطمة قائد الطائي
المصادر :-
مركز دراسات الوحدة العربية:
الحرب على العراق ١٩٩٠-٢٠٠٥
مدينة الأرامل
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات:
العراق في زمن الحرب
منتدى العلاقات العربية والدولية:
سنوات عاصفة قراءة جديدة في احتلال العراق.