ديوجانس والكلبية: جنون أم ثورية؟
اسماه افلاطون سقراط المجنون و نعته ارسطو بالكلب. اولع بالكلاب فعاش حياته كالكلاب يتسول في حواري اثينا ويتناقش حتى سميت فلسفته بالفلسفة الكلبية. انتقدت فلسفته التحضر حتى اصبحت تسمى لاحقاً بالتشاؤومية بسبب نظرتها على المجتمع. فسنحاول في هذا المقال القاء نظرة قصيرة على تاريخ وتأثير الفلسفة الكلبية لدوجانس السينوبي او ديوجانس الكلبي.
ديوجانس والكلبية: جنون أم ثورية؟
عندما نلقي نظرة على لوحة الفنان رافائيل “مدرسة أثينا”، والتي تصور الفلاسفة الاغريق وهم يتحاورون فيما بينهم، نرى في قلب اللوحة شخصان: ارسطو وافلاطون. ولكن موضوع مقالنا اليوم عن ذاك المستلقي على السلالم، معطٍ ظهره قلب اللوحة. أي كأن رافائيل يحاول تصوير انتقاد هذا الرجل لكل تمثله اللوحة. انتقاده لأفلاطون المجتمع الاغريقي والحضارة ككل. ديوجانس الكلبي، ذاك الذي اخذ الفقر فضيلةً والطبيعة الى اقصى ما يمكن حتى أصبح شخصية مثيرة للجدل. فعاش في حواري أثينا متسولا. يناقش – كسقراط – كل من هب ودب. فكان يأكل البقايا، يبات في المعبد او تحت أي سقف يراه او كما يصوره العديد من الفنانين في وعاء كبير او في حوض. كان أسلوبه الفلسفي معتمد على قيمة الصدمة. فكان يتبول على المارة ويستمني امام العامة. فسنحاول في هذا المقال ان نعطي بعض المعنى لجنون هذا الفيلسوف ونلقى نظرة على مدرسته الفلسفية وتأثيرها.
سميت فلسفة ديوجانس بالكلبية(cynicism) نسبة لديوجانس نفسه. فكان ديوجانس مشهور بالكلب(cyn) . حتى في احدى الروايات نعته ارسطو بالكلب دون ذكر اسمه حتى مما يدل على شهرة هذا اللقب حتى ان الناس كانوا يعرفون من المقصود به بدون ذكره الاسم. أصل هذا اللقب واضح. فبطبيعة الحال، كان ديوجانس يعيش حياة كحياة الحيوانات. فكان ديوجانس مولع بطريقة عيش الحيوانات الحرة حتى مشاهدته للفئران كانت مصدر الهم الوصول الى فلسفته. اخذ لقب الكلب برحابه صدر فلما لا فالكلاب تعيش بلا عيب ولا حياء في التعبير عن كل ما في قلبها فهي تحتك بمن تحب وتنبح على من تكره بلا تعالٍ ولا تملق. وقد تغير معنى الاسم من الكلبية لاحقا الى المعنى الحالي لكلمة (cynicism) الى التشاؤمية في القرن التاسع العشر بعد ما ارتبطت أفكار الكلبية المعادية للتحضر مع النظرة التشاؤمية نحو المتجمع بشكل عام خاصة بعد الثورة الصناعية.
ان الفلسفة الكلبية بحد ذاتها لم تكن مختلفةً كثيرا عن الفلسفات التي عاصرتها. فكباقي الفلسفات الاغريقية كان للكلبية (telos) او هدف والذي كان بكل بساطة الوصول الى السعادة والرضاء. كما اتفقت الكلبية مع باقي الفلسفات على ان الوصول الى هذا الهدف ممكن من خلال الفضيلة. فرأت الكلبية ان في الفقر طريق مختصر الى الفضيلة. حيث يعيش الانسان بعيدا عن جميع الرغبات المادية والجسدية وان يكون حرا فعلا بعيدا عن عبودية المادة والجسد او حتى الحضارة. حرا كحيوان بري. ان بعض من هذه الأفكار خاصة تلك عن الفقر لم تكن جديدة وخاصة للكلبية فمن قبلها كان سقراط مشهور لكونه يمشي حافيا، يسخرون من ثيابه. وبطبيعة الحال، انتقلت تلك الأفكار من سقراط الى ديوجانس عن طريق معلمه أنتيستنتس والذي بدوره كان أحد تلاميذ سقراط. فرغم كون ديوجانس الواجهة الرئيسية للكلبية لكن المؤرخين يتفقون على كون أنتيستنتس اول فيلسوف كلبي. ورغم انه لم يعش الحياة الكلبية المعتادة (حياة التسول) لكننا لا يمكن ان ننكر تأثيره على الحركة الفلسفية هذه. فبالضافة الى نقله الفكر السقراطي الى الكلبيين، وضع انتيستنس أهمية كبيرة على الاخلاق والتحمل الجسدي فاخذ من سقراط مثال لحياته. حيث يقال انه ادعى ان الفضيلة كافية للوصول الى السعادة بإضافة قوة سقراط. فكان ايمانه ان الفضيلة شيء يمكن تعلمه بالشجاعة والسيطرة على النفس ذا تأثير مباشر على الأفكار الكلبية بالإضافة لاحتقاره للمذهب اللذة (Hedonism) الذي نراه بوضوح فيمن تبعه من الكلبيين خاصة ديوجانس.
اخذ ديوجانس أفكار سقراط عن الفقر والتحمل الى ابعد حد ممكن فكان سلوكه وتعاليمه تحد مستمر للمجتمع الاغريقي آنذاك والتحضر ككل. فتارة كان يمشي الى الوراء وعندما سخروا منه اجابهم قائلا: ” الا تستحوا، انكم تمشون الى الخلف في طريق الوجود كله وتلوموني عندما تروني ماشياً للخلف؟” وتارة أخرى كان يمشي في حواري أثينا ممسكنا مصباح في وضح النهار وعندما سؤول عن السبب اجابهم: “إني ابحث عن رجل.” فكان أسلوبه مغايرا فعلا لمعاصريه. فلم يكن للكلبية مدرسة فلسفية فعلية بل أخذت الكلبية من الشوارع مدرستها. كما كان الفلاسفة الكلبيين من اول المنتقدين للفكر التعصبي الفلسفي والفلسفة التخمينية فتوقعوا انتشار الشكوكية في الفلسفة. كما صرفوا النظر عن فلسفة افلاطون الميتافيزيقية. فيحكى ان مرة سؤول افلاطون ” ما هو الانسان؟” وكان جوابه: ” حيوانات يمشي على قدمين بلا ريش” فعندما سمع ديوجانس بهذا اخذ دجاجة ونتف ريشها وذهب الى مجمع افلاطون قائلا: “انظروا جميعا، جلبت لكم انساناً.” فكانت نظرة الفلاسفة الكلبيين لمن عاصروهم من الفلاسفة على انهم قوم بائس من المنحطين الذين يقدسون الشكليات والنفوذ والمال.
وبهذا الفكر يمكن ان ننظر الى سلوك ديوجانس على انه تمرد على المجتمع وافكاره. فكان ديوجانس (وبرأيي الشخصي) اول معتصم سلمي. فترك من قلده من المسيحيين الذين اخذوا الفقر أساسا لأفكارهم حياة المدن الصاخبة متجهين نحو الريف والتنسك بينما اخذ الكلبيين من شوارع المدن سكننا لهم معتصمين ومنتقدين حياة مجتمع المدن ورفاهيته. فكان تصرفات دوجانس القبيحة اعتصام دام حياته كلها. كما عبرت افكاره تلك عن عمل ثوري لا يراه العديد. فرغم كوننا لا نعلم الكثير عن حياة ديوجانس ولعل أكثر ما وصلنا عنه كان مفبركا فغرابة الرجل جعلته هدفا لكل مثل شعبي الا اننا يمكن ان نحلل ما وصلنا ونصل من خلال التحليل هذا الى بعض الأفكار الكلبية الأساسية. فيقال ان ديوجانس أسر في أواخر حياته وأصبح عبدا في كورنثوس كما انه استحب العبودية. فرغم ان صحة هذه القصة ليست معلومة الا انها ليست الا علامة على أفكار ديوجانس والكلبيين عن العبودية. ففي المجتمع الاغريقي الذي يرى ان العبودية شيء طبيعي فكان هناك حوالي 80 ألف عبد في أثينا فقط كانت تعاليم ديوجانس ان يطيع السيد عبده والمساواة بين العبد والسيد. ولعل قصة عبوديته ليست الا رمز لأفكار ديوجانس الثورية ضد العبودية.
ولم تقتصر أفكار ديوجانس والكلبية الثورية على ذم العبودية. فالحرية هي احدى اهم مبادئ الكلبية الرئيسية سواء كانت هذه حرية العبد من سيده، حرية الانسان من المجتمع او حرية التعبير عن الرأي. فكل من هذه الحريات تعمل معنا لتنتج لنا الفكر الكلبي عن الحرية. فتعاليم ديوجانس لم تكن بالنظريات الفلسفية بل بسلوكه. ولعل مقت ديوجانس لمعاصريه من الفلاسفة – اولهم افلاطون- ليس الا مقت للتملق لأصحاب النفوذ. فيحكى ان مرة رأى افلاطون ديوجانس يغسل بعض الخس عند النهر فذهب اليه وهمس: “لو توددت للملك ديونيسيس لما كنت تغسل الخس الان” فأجابه: ” لو غسلت الخس ماكنت لتتملق لديونيسوس.” وإذا اخذنا نظرة وحدة على فلاسفة عصر ديوجانس لوجدنا افلاطون مقربا من ديونيسوس الطاغية وارسطو معلما لألكسندر الأعظم زينوفون مقربا من كروش الكبير. فها هم عظماء الفلسفة الكلاسيكية مرتبطين بطغاة وقادة معلنين انتمائهم علنيا بينما كان ديوجانس لا يعتبر نفسه مواطناً لأي دولة. فعندما سؤول قال: “انا مواطن للعالم” فصاغ كلمة (metropolitan). وإذا نظرنا مرة أخرى على قصة ديوجانس وافلاطون السابقة لرأينا تجسيدا لحرية التعبير عن الرأي. فلم يهتم ديوجانس لأفلاطون العظيم ولا نفوذ ديونسوس بل عبر بكل صراحة عن رأيه فيهم. ان حرية التعبير عن الرأي اخذت حيز كبير من سلوك ديوجانس. فكان يوجانس يؤمن ان لا حدود للحرية التعبير عن الرأي. فسلوكه قليل الحياء ليس الا نداء للطبيعة او رأي واضح. فقال مرة: “نعتني شخص بالكلب وتفاجئ حين تبولت عليه.” فها هو التبول يعبر عن رأي ديوجانس في هذا الشخص. وحين سؤول “من هو أعظم شخص في العالم؟” رد قائلا: ” parrhesia او صراحة الحوار.” وتتجلى هذه الصفة في قصة تجمع الإسكندر الأكبر وديوجانس. ورغم كون صحة حدوث هذا اللقاء ضعيفاَ الا انه يعبر بكل وضوح عن حرية الرأي في الفكر الكلبي ورأي الكلبين بذوي النفوذ. فيقال ان مرة رأى الاسكندر الأكبر وهو يزور رعيته في أثينا ديوجانس وهو مستلق فذهب ليكلمه قائلا:
“انا الاسكندر الأعظم، فمن انت؟”
“ديوجانس الكلب”
“الكلب؟”
“نعم، فانا اقترب من العطوف وأنبح على الجشع وأعض المغفل”
“أطلب ما تريد.”
“تنح من امامي، إنك تعيق ضوء الشمس”
ولعل هذه القصة رمز واضح لحرية الرأي في الكلبية. فها هو ديوجانس امام أعظم شخص في وقته وكل ما يطلب منه هو التنحي من امامه بأسلوب وقح. فيقال ان بعد هذه الحادثة قال الاسكندر: “ان لم أكن الاسكندر الأكبر لأردت ان أكون ديوجانس.”
ان تأثير ديوجانس وكلبيته ذو صدد بعيد جداً. فيقترح المؤرخون ان كان للكلبية الفضل في وجود الفلسفة الرواقية (التي تلقي الكثير من القبول مؤخراً). فكان مؤسس الرواقية، زينون الكتيومي، تلميذا لدى أقراطس الطيبي والذي بدوره كان أحد تلاميذ ديوجانس. وتأثير ديوجانس لا يتوقف هنا، بل يمكن ان نراه في العديد من الفلسفات والحركات الفنية منها اعجاب نيتشه بالكلبية. حتى يمكننا (وبرأيي الشخصي) ان نرى بعض خطوط التشابه بين أفكار الكلبية والمدرسة الرومانتيكية وولعها بالطبيعة والكلبية والفوضوية البدائية (anarcho-primitivism) وشخص كتيد كازينسكي بمقتهم للتحضر.
الكاتب | سعد حنا غزالة
التدقيق والتحرير | محمد رحيم
المصادر:
Confronting Slavery in Classical World
Diogenes the Cynic: Sayings and Anecdotes. Translated with Introduction and notes by Robin Hard.
Herakleitos & Diogenes. Translated by Guy Davenport.
The Cynic Philosophers: From Diogenes to Julian. Translated and Edited by Robert Dobbin.
The History of Philosophy. A.C Garyling.