كيف تشكلنا المباني
تحيط بنا الأبنية في كل مكان، نعيش داخلها وخارجها، و مع التطور العمراني الكبير الحاصل في العصر الحديث ازداد تأثيرها و اصبحت تشكل البيئة التي نكبر بها و نعيش فيها ذكرياتنا ونمارس نشاطاتنا و نقضي حياتنا، يقول ويتستون تشرشل رئيس الوزراء السابق لبريطانيا " نُشكل مبانينا و مبانينا تُشكلنا"، قال هذا قبل أكثر من ٦٠ عام، و في ما بعد أكدت الدراسات العلمية الحديثة مقولته. كيف يمكن للعمارة ان تؤثر على صحتنا الجسدية والنفسية، وأن تغير سلوكنا وعاداتنا، سنتعرف على هذا في المقال الآتي ....
كيف تشكلنا المباني..
في الزمن البعيد كان من عادات أشراف العرب عند ولادة ذكرا جديد في أُسرهم يرسلونه إلى الصحراء مع العوائل البدوية ليشتد ساعده ويفصح لسانه ويصح جسده ويكتسب الشجاعة والجرأة وحرية التصرف حسب تعبيرهم ، فلا يوجد أفضل من بيئة الصحراء ولا افصح من لسان البدو، حيث يصبح الولد الصغير متطبعاً على الظروف الصعبة ومتكيفاً معها فضلاً عن فصاحة القول وصفاء الذهن الذي يكتسبه من سماء الصحراء وعُزلتها، ليصبح جاهزاً لحمل اسم أبيه بعد عودته للديار، حيث أن للبيئة دوراً مهما في تكوين ذات الإنسان وطبيعته وسلوكه وخاصةً عند مراحل حياته الأولى، وعند قولنا “البيئة” فهذا يعني بمكوناتها الحية وغير الحية، فما يحيط بنا من جماد ونبات وإنسان و أطلال وغيرها تلعب دورا في تكوين شخصيتنا على المدى البعيد والقريب.
فكم من المرات كان لدخولنا لفضاء ذو جدران مطلية بلون زاهي دور في تغيير مزاجنا، وكم من فردٍ سلبيّ لا يكل من الأعذار والتململ سبب في هبوط مستوى فريق العمل بأكمله وفي جانب آخر شخصية نشطة استطاعت أن ترفع من فريق متواضع كسول الى درجات عالية من النجاح، وكم شجرة نفضية و زقاق ظليل ترتبط به أرواحنا وذكرياتنا وغيرها من الامثلة..، إن تصور الإنسان و إدراكه لما حوله يؤثر على تفكيره ومشاعره وأفعاله وبالتالي على جسمه وشخصيته ودوره ومستقبله في المجتمع.
و مع التطور الكبير الحاصل خلال التاريخ البشري تطور كل شيء، وأصبح العمران لا يقتصر على فضاءات العيش والعبادة فحسب، بل نحن اليوم نجد أنفسنا محاطين بالعمارة في كل أنماط وأوقات حياتنا، حيث نجدها في كل شيء من حولنا بدايةً من موقع السرير الذي أنت نائم عليه الآن وغرفة النوم خاصتك الى التخطيط العمراني والإقليمي انتهاءً ،حيث أصبحت العمارة جزء أساسي من حياتنا، تشكل بيئتنا الأساسية التي تحيط بنا ونقضي حياتنا فيها، نتأثر بها و تتأثر فينا، .ويلعب المعماري دوراً مهماً في هذا التأثير بصفته القائد لهذه العملية التصميمية ، حيث تحكم هذه العملية ثلاث امور اساسية تسمى بثلاثية العمارة (المتانة- الوظيفة- الجمال) التي يسعى المعماري الى تحقيقها لتلبية الحاجات الانسانية وتحقيق الراحة الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية والأمنية، إلا أن على مر الزمن واختلاف التوجهات الفكرية، لم تكن هذه العملية ذات نتيجة واحدة ، بدايةً بالمبالغة والخروج عن الطبيعة و المقياس الإنساني التي أدت إلى عدم تحقيق أي من هذه الشروط الثلاثة، هذا بالإضافة إلى التطورات العلمية التي غيرت الكثير من الأمور السائدة حول الإنسان وطبيعته الفسيولوجية وتطور الكثير من الاعتبارات إزاء ذلك.
حيث يمكن أن تساهم الفضاءات المُصممة في تعزيز الشعور باحترام الذات والتقدير كما يمكن أن تساهم العمارة الخاطئة في التوتر والإرهاق وغيرها من الأعراض الجسدية والنفسية، أن الأمر الملفت في هذا هو أن هذه الأثار السلبية لا تظهر مبكراً وإنما بعد مرور زمن من الاستعمال من قبل الأفراد القاطنين… ويزداد تأثيرها بمرور الزمن، وهذا ما أدى إلى ظهور العمارة النفسية في ستينيات القرن الماضي، حيث يتعاون العلماء النفسيين مع المهندسين المعماريين في عملية التصميم للمشاريع المختلفة للوصول الى نتيجة تحقق حاجات المستخدمين الأساسية، ولكن بعد سنوات لاحقة تراجع هذا المفهوم وقل استخدامه.
يقول رئيس الوزراء البريطاني السابق ويتستون تشرشل- نُشكل مبانينا و مبانينا تُشكلنا -قال هذا قبل أكثر من ستين عاماً من الآن، وعلى الرغم من أنه ربما ارتجل قوله آنذاك ، إلا أن الأبحاث العلمية والدراسات الحديثة أكدت قوله،
-الفضاءات الداخلية
على مستوى الفضاءات الداخلية، و بدايةً من التأثير اللوني قام علماء في كولومبيا البريطانية- بتجربة لمعرفة مدى تأثير ألوان الفضاء الداخلي على عملية التخيل وذلك بإدخال٦٠٠ طالب لهذه التجربة، حيث تمت التجربة بفضاءات ذات جدران بلون احمر وازرق وأخرى ذات ألوان محايدة كلاً على انفراد، حيث كانت النتائج مختلفة، ففي حالة اللون الاحمر كان الطلاب أكثر انتباه وأظهروا مهارة في الاختبارات التي تتطلب الدقة وذلك نظراً لإرتباط اللون الاحمر بالخطر الذي جعلهم أكثر انتباه كما يؤكد علماء النفس، وأما في حالة اللون الأزرق فكان الطلاب أكثر مهارة في الاختبارات التي تتطلب التخيل، على الرغم من ضعفهم في اختبارات الذاكرة قصيرة المدى، ويرجع ذلك إلى تحفيز اللون الأزرق للاسترخاء العقلي لدى الإنسان نظراً لإرتباطه بالأفق والسماء والمحيط، حيث يصبح المرء أقل تركيزا مع الواقع وأكثر انسجاما مع تخيلاته وعواطفه.
وأما عن تأثير الاضاءة وشدتها، كان العالم جوناس إدوارد سولك يعمل في مختبر في مدينة بطرسبورغ لإيجاد لقاح لشلل الأطفال، حيث كان هذا المختبر ذو جو مظلم و إضاءة منخفضة، وطوال المدة التي قضاها فيه كان تقدمه بطيء جداً، وفيما بعد انتقل إلى إيطاليا في دير في مدينة أسيزي حيث الأشكال المستديرة و الاضاءة الطبيعية، ولم يمضي وقت طويل حتى توصل الى نتيجة متقدمة يصل بها إلى اللقاح، كان مقتنعاً أن تغير البيئة والهيكل و الانارة الجديدة هو ما حفز ابداعه.
وفيما يخص أبعاد الفضاء وعناصره، في عام 2007 قام الأستاذ في جامعة مينيسوتا “مايرز ليفي” بتجربة لمعرفة تأثير ارتفاع السقف على معالجة الدماغ للمعلومات حيث استنتج من خلالها أن انخفاض السقف يعزز التفكير المحدد والاكثر صلابة، في حين أن السقف المرتفع يساعد ويدعم التفكير الحر والأكثر مرونة، وبهذا يكون السقف المرتفع مناسباً للاستوديوهات الفنية حيث تتطلب الإبداع، في حين يكون السقف المنخفض مناسباً لغرف العمليات، حيث يساعد الفرد ليكون أكثر دقةً و واقعية.
-المباني الخارجية والمدن
وبالانتقال الى الخارج يقول المعماري يان جيل ان الناس يسيرون أسرع عندما يمرون بواجهات غير مزينة أو مزخرفة بينما يكون سيرهم ابطأ عندما يكون هناك مباني مثيرة، ولمعرفة تأثير هذه المباني على قدرة التأمل استخدم الدكتور خوليو بيرموديز الرنين المغناطيسي الوظيفي و توصل إلى أن التواجد عند نوع محدد من التصاميم المعمارية له عدة فوائد صحية، وأن العناصر المستخدمة في مباني الحضارات القديمة ک المعابد والمساجد تدعم القدرة على التأمل كما في تاج محل في الهند وقصر الحمراء في اسبانيا.
فتصميم الأبنية و تقنيات ومواد البناء المُستخدمة والوانها وطريقة توظيفها لها تأثير على التكوين العصبي والنفسي المناعي لجسم الإنسان و درجة حرارته وضغط الدم كما يؤكد الطبيب بابلو أرنولد.
وعلى مستوى التصميم الحضري للمدن ، فقد اوضحت الدراسات ان اسلوب تصميم المباني في المدن له تأثير يمكن أن يطال المادة الرمادية ووظائف المخ بالمقارنة مع الحياة الريفية واسلوبها، وقد يرجع سبب ذلك إلى الانفتاح والمساحات الخضراء الواسعة المتاحة لسكان الريف؛ ففي عام 1975م أجريت تجربة في مدينة فانكوفر، من خلال تصميم المدينة بشكل يسمح للسكان من رؤية المناظر الطبيعية والجبال المحيطة بالمدينة، حيث تم ملاحظة تحسن الحالة النفسية للسكان للأفضل، وأن تأثير تخطيط المدن و تصميمها لا يقتصر على الحال الصحية والنفسية فحسب بل يصل الى التأثير على العلاقات الاجتماعية وطبيعتها، ففي ولاية ميسوري الامريكية تم هدم مجمع سكني تم بناءه في الخمسينيات من القرن الماضي بعد ازدياد معدل حالات الجريمة فيه، حيث صمم هذا المجمع بشكل ابنية شاهقة يتخللها مساحات بينية واسعة ومفتوحة أدت إلى إضعاف العلاقات و تقليل الإحساس بالأُلفة والاحتواء بين سكانه.
-الواقع المحلي..
ربما وأنت تقرأ هذه الدراسات والتفاصيل تبادر إلى ذهنك حجم التدهور العمراني الذي يشهده الواقع العراقي في العديد من المدن، ففي الوقت الذي بدأت فيه العديد من الدول الأوروبية بتعديل قوانين البناء لتتناسب مع التطورات الحديثة واعتبار التصميم مسألة عامة تخص صحة المجتمع وسلوكه لا يزال الواقع المحلي متردياً في هذا الجانب، فمع قلة الثقافة المعمارية للمجتمع والناتجة من الاضطرابات المختلفة التي مر بها البلد وعدم الاستقرار السياسي ، أصبحت عملية التصميم عملية عشوائية وسط تدخلات من غير المختصين في هذا المجال يسبقها الجانب النفعي و الاستغلال الرأس مالي، حيث يغيب المعنى وتهمل كل جوانب الاحتياجات الإنسانية، وبالرغم من كل هذا يمتلك العراق تراث معمارياً قابلا للتطور ومواكبة هذه الدراسات لاسيما أن الكثير من الاعتبارات قد تم ورودها في هذا التراث ولاسيما العمارة الإسلامية التي وضعت الإنسان محوراً أساسياً لها.
الكاتب / علي رضا فاضل
التدقيق والتحرير / فرح منير
-المصادر:
1- www.bbc.com