دُفِنَ الجَمَال، فَجاعت فطرتنا إليهِ
في الضغط على الطبيعة البشرية: خيّل لبعض الناس أن محبة الجمال في آيات الكون نزعة تخالف التقوى، لكن طبيعة الحياة تبين العكس!
دُفِنَ الجَمَال، فَجاعت فطرتنا إليهِ
– مفهوم الجمال:
الجمال مَفهوم نسبي تَتفاوتْ معاييرهُ من شخص لآخر، ومن بيئة لأخرى كما تَتفاوتْ درجاتهُ بين البشر، ولهُ مدرستان إحداهما تَعتبر الجمال أمرًا موضوعيًا كائنًا في الشيء نفسه، بحيث يراهُ كل الناس جميلاً، والأخرى تعتبرهُ مرهونًا بالإدراك الذاتي عند الشخص المُدرك، أي أن الإنسان هو الذي يُضفي على الموضوع جمالهُ، وبناءاً على هذه النظرة يَتفاوتْ الناس في تقييمهُم لجمال الأشياء، وإضافة لذلك أن الجميل لا يمكنهُ الظهور في المُطلق أو الفراغ لإرتباطهِ الطبيعي بوجود شيء إسمهُ القبيح الذي أصبح مادة للتشكيل الجمالي.
– قيمة الجمال عندَ الإنسان:
هناكَ قيَم جوهرية يجب أن تنمي في شعور الإنسان إلى جانب الحق والخير وهو الجمال، وأن يذوق الإنسان الجمال -باعتبارهِ قيمة عُليا- فسوف يدخل في عالم باقي القيم تلقائيًا، فالجانب الجمالي وتذوقهُ وتربيتهُ أمر ضروري لحياة الإنسان على هذهِ الأرض لأنها تسمو بالإنسان فوق حيوانيتهِ وتجعلهُ يعيش وسط انسانيتهِ فيكون مُرهف الحِس ،رقيق الشعور لا متبلدًا ولا جامدًا بل حسن الذوق والتذوق فيعطي لحياتهِ معنى ولحياة المجتمع بأجمعهُ ذوقًا رفيعًا.
– مفهوم التربية الجمالية:
مفهوم التربية الجمالية يشترك في عنصر التوجيه للفرد تربية مستمرة مدى حياته، تربية فيها من التنسيق بينَ إنماء شخصية الفرد ما يُوحى إلى المزاوجة بين القِوى الإدراكية وبين الدوافع الحِسية والوجدانية، وإلى تحقيق التوازن بين القيم العلمية والتقنية، وبين القيم الجمالية والروحية والخلقية، فالتربية الجمالية تعمل على تحقيقِ نمو متوازن للشخصية في جوانبها العقلية والجسدية والانفعالية والاجتماعية والوجدانية، وتسهم في تكوين اتجاهات الفرد وتؤثر في مشاعرهِ ووعيهِ وتسهم في صياغة آرائهُ وتقوية معتقداتهُ وتطوير صفات الإنسان الجمالية وخاصة المجال الانفعالي والخيال والتخيل والتفكير المجرد واغناء عالمهُ الروحي، وإضافة لذلك فطرة الفرد لا تترك وشأنها بل تُحاط بمجموعة من المؤيدات التي تحفظ لها اتجاهها السوي وترفدهُ بروافدٍ صافية قوية تضيف إلى نزوع الفطرة إلى الجمال نزوعًا آخر ادراكيًا فكريًا، وقد يستطيع الفرد أن يفهم الجمال بشكل واسع عندما يُشارك هو بنفسهِ في الخلق الإبداعي في الفن والعمل والحياة الإجتماعية. والتربية الجمالية ليست غاية وإنما وسيلة بناء الشخصية وتكامُلها.
– عناية الإسلام بالتربية الجمالية:
بيّن الله في آياته الكريمة نواحي الجمال وأهمية هذهِ الجوانب في حياتنا، وأعتنى الإسلام عناية بالغة بموضوع الجمال وتنمية الذوق والحس الذي يتجسد في أنماطِ السلوك والعلاقات الإجتماعية كما يتجسد في الأشياء والموضوعات الحسية، وهي إلى جانب ذلكَ تفتح الأفق النفسي والعقلي والوجداني لدى الإنسان وتشده إلى مبدع الخلائق و الجمال في هذا الوجود، فالجمال والتربية الجمالية طريق إلى معرفة الله ودليل على عظمتهِ.
وتأسيسًا على مَوقف الإسلام من الحُسن والجمال يتحمل الآباء والمربون تعميق هذا الشعور في نفسِ الطفل والناشئ، فإن تربيتهُ على تلكَ القيم تَعني تهذيب سلوكهما واخلاقهما وتعميق القُدرة عندهما على التمييز بين الحُسن والقبيح، والنفور من القبحِ لأنه يَستنفد طاقات الإنسان النفسية والخلقية والفكرية وهذا ما يتنافى مع الإيمان، والإقبال على الحُسن والجميل من الفعل والقول والسلوك والأشياء، التي تتجسد في القيم، الكلمة الطيبة، حُسن المَنطق، أدب الكلام، حُسن المعاشرة، في فعل الخير، احترام الحق والطبيعة، بناء البيت، هندسة المُدن، المحافظة على البيئة، النظافة الشخصية والعامة وغير ذلك.
– ارتباط التثقيف المنطقي بالتثقيف الذوقي:
إن الواجب الأساس المتوخى من التربية والتعليم والتثقيف يُكمن في تنمية وترقية القدرات والمدارك الكُلية للإنسان بحيث لا يكون دورها قاصرًا على كيانه العقلي والذهني دونَ نظيرهُ الحِسي الانفعالي والوجداني حتى لا نجني على طبيعته المزدوجة الذاتية والموضوعية باعتبار إن الإنسان يعيش بجوارحهِ ،حدسه ،حسه ،قلبه ،خياله وعقله، ومن ابرز العوائق واكبر النواقص للنهضة أو الصَحوة هو تَلكُم المُفارقة الخطيرة بين التثقيف الذوقي الذي يُخاطب الحِس والوجدان ونظيرهُ المنطقي الذي يُخاطب الذهن والعقل.
وقد أشارَ هربرت ريد إلى: إننا حين نتعمق في أشكال الحياة الرئيسة فإننا سنجد إن العامل الجمالي هِو المُسيطر ولا يُمكن الهروب منهُ، وإنكار ذلك معناهُ إننا نقود البشرية إلى فوضى عارمة، فالجمال يُربي الذوق ويُهذب السلوك ويُوقد في النفسِ نوازع الخير والفضيلة، وإن علاقة الفكر النير بالجمال علاقة مُتلازمة وطيدة، إذ من سمات الفكر السليم الراقي أن يكون منتظمًا في بُنيته معتدلاً متزنًا واضحًا مؤثرًا مُنسجم المقدمات والنتائج، ولعلَّ هذا الترابط هو ما دعا العالم اينشتاين إلى قول: ( إن التفكير العلمي ينطوي دائمًا على عُنصر شعري ) وكما يقول ايمانويل كانت: الخيال المُنتج ملك التركيب الضروري في اكتساب المعرفة، ولازم في حصول الفهم، ووسيط بين الحِس والعقل والحساسية والفهم، وطاقة دينامية مفطورة على الخلق والإبداع تشيد الاسكيمات الذهنية التي تُقدمها للفكر واهبة للمفاهيم صورًا تعنيها على التجريد، لذا لابد من التأكيد على ضرورة تنمية الوظائف الوجدانية جنبًا إلى جنب مَع الوظائف العقلية، فليست التربية الجمالية عملية نفسية مُستقلة عن التربية الذهنية بل هيَ جُزء لا يتجزأ مِـن عملية بناء الشخصية.
– التعليم التربوي والثقافة الفنية والجمالية:
إن أقدام التعليم على إدراج بعض مواد نظيرهُ الثقافي كالرسم والموسيقى في برامجه التربوية محاولة لا تُشفي الغليل إن لم نقل تزيد الطين بلة في التبخيس من أهمية الثقافة الفنية والجمالية، لأنها تفتقر إلى التعميم وتلقينها يَقتفي طُـرِقًا تقليدية الأمر الذي يجعلها حرفًا يعلمها الصانعون لصناعتهم ولا تتماشى مع مجالات معرفية مُختلفة، وتبعدنا عن النظرة الشمولية إلى تراثنا الثقافي وعن مغزى احيائه خدمة لحاضرنا ومِستقبلنا حينما لا نعبأ إلا ببعض جوانبهِ المحدودة، وهذا ما يعوق وحدة وتكامل العلوم والآداب والفنون وتناضجها وتلاقحها بقدر ما تُعرقل مسار تطورها ونضجها وازدهارها، والاسوء عندما تصبح مَعايير هذهِ المواد المحدودة ثوابت ومثلاً عُليا ونماذج مثلى تحتذى وتتناسل من فرد إلى آخر ومن عمل إلى غيرهِ مما يُحظر على الأذواق نموها وتطورها ونضجها.
والذي لابُد من ذكره هو إن ترسيخ الثقافة الجمالية والفنية لا تُكمن اهميته فقط في تثقيف الذوق وترقيته وترهيف الإدراك وتقويته واخصاب الخيال واثرائه وتنمية ذكاء وقُدرات الإنسان على الخلق والابتكار والملاحظة والاستيعاب والتفكير، بل كذلك في تجذير بعض القيم معايير جمالية من تنظيم وانسجام ووضوح واتزان وتناغم واعتدال في وجودنا احساسًا وحدسًا وتفكيرًا، وهي معايير نَحنُ في امس الحاجة إليها في هذا الكيان حيث التلفيق والتنافر والتطرف والتناقض والعشوائية من سماتهِ وخصائصه سواء في شقه الملموس أو المجرد.
الكاتب / تبارك قابِل
التدقيق والتحرير / مريم عقيل
المصادر:
كتاب التربية الجمالية والتذوق الفني- لمعاهد الفنون الجميلة