عالِم الرياضيَّات الذي لم يعش أبداً

في خمسينيّات القرن الماضي قدّم نيكولاس بورباكي طلباً للإنضمام إلى جمعيّة الرياضيَّات الأمريكيّة، ورغم أنّه كان واحداً من أكثر علماء الرياضيَّات تأثيراً فِي عصره إلا إِنَّ طلبه رُفِض رفضاً قاطعاً لسبب واحد.. وهو أنَّ نيكولاس بورباكي لم يكن له وجود اساساً!، تعرف اكثر على القصة الغريبة من خلال المقالة.

0

عالِم الرياضيَّات الذي لم يعش أبداً

 

نبذة تاريخيّة:

قبل عقدين من الآن، فقد العالم الكثير من علماء الرياضيَّات بسبب الحرب العالميّة الأولى، مما أثّر على علم الرياضيّات سلباً، فتجزّأ مجال الرياضيّات وأصبح العلماء الجدد يتخذون مناهج مختلفة في حالة من إنعدام الإتفاق على لغة مشتركة للرياضيّات بين العلماء، مما جعل أمر تبادل الخبرات بينهم لتوسيع عملهم مهمّةٌ شاقّةٌ.

البداية:

في عام ١٩٣٤، سئم مجموعة من علماء الرياضيَّات الفرنسيّين من هذه الحالة، حين كانوا يدرّسون في المؤسّسة المرموقة العُليا للأساتذة، وجدوا أنَّ كتاب صفّ التفاضل والتكامل غير مترابط البتّة، فقرّروا تأليف كتاب أفضل! ضمّت هذه المجموعة الصغيرة أعضاءاً جُدداً، كبر المشروع وأزدهرت طموحاتهم، وكوّنت جهودهم هذه كتاب عُرف بـ”عناصر الرياضيَّات“ وهو مشروع يسعى لتوحيد فروع الرياضيَّات على إختلافاتها.

بدأ الكتاب بمجموعة من البديهيّات المختلفة والبسيطة للرياضيَّات، ومن ثُمَّ تدرّج مؤلفوه فبدؤوا بالتطرّق الى نظريَّات أكثر تعقيداً، صنعوا تعاريف جديدة وأكثر وضوحاً للمفاهيم الرياضيّة الأكثر أهميّة، وقاموا بتعريف جميع المصطلحات الرياضيّة بوضوح كبير مما جعل القرّاء بغير حاجة إلى وجود وصلات خارجيّة لفهم المادة أو معرفة معلومات غير واردة في المكتوب، كما وشرحوا جميع الأفكار المعقدّة وبسّطوها لتكون متاحة للعامة ولأهلِ الإختصاص في آنٍ واحدٍ.

كان منهجهم في تناقض كبير مع كلّ المعتقدات الدارجة عن الرياضيَّات، كانوا يعملون في وقتٍ بدا فيه الرياضيَّات وكأنّه علمٌ بديهيٌّ ثابتٌ، أو أنَّ الإفراط في الإعتماد على المنطق يعيق الإبداع، ولكّن هذه المجموعة من العلماء استطاعت التمرّد على التقاليد والأقوال الرياضيّة الشائعة، وأحدثت ثورة كبيرة في الرياضيَّات في الفترة التي كان فيها المجال في قمّة تشتّته وتَجزُّأه.

عناصر الرياضيات (Éléments de mathématique)

الحيلة:

عبقريّة هؤلاء العلماء لم تضع حاجزاً بينهم وبين الإستمتاع قليلاً اثناء عملهم على مشاريعهم الرياضيَّة الثوريّة، فلذلك قرّروا نشر كتاب ”عناصر الرياضيَّات“ وجمع أعمالهم اللاحقة في الجرائد والمجلات تحت اسم مستعار، ألا وهو نيكولاس بورباكي (Nicolas Bourbaki) وعلى مدى أعوام، تمتّعت مؤلفات بورباكي بنجاح باهر وشهرة واسعة، وأخذ أعضاء المجموعة حيلتهم هذه بجدٍّ كعملهم، فادّعوا ببساطة أَنَّ عالمهم الرياضيّ الوهميّ هو روسيّ المنشأ، منعزل يلتقي بأعوانه المختارين فقط ولم يجرب الظهور للعلن أبداً، كانوا يرسلون برقيّات بإسمه ويعلنون عن زواج ابنته وعن مناسبات مختلفة لحياته، ويسخرون علناً من اي شخص يشكّك بوجوده.

“ملتقى بورباكي في عام 1938”

لكن لا حيلة على الأرض تستمرّ للأبد:

عام ١٩٦٨، لم يكن بوسعهم إكمال مقلبهم، لذلك قاموا بإنهائه بالطريقة الوحيدة التي كان بإمكانهم فعل ذلك، وهي إنهاء حياة عالِمهم الوهميّ وإعلان وفاته للعالم، وكختام لمُزحتهم، أصدروا شهادة وفاة مليئة بالكلمات الرياضيَّة.

ولكن على الرغم من كلِّ ذلك، فإِنَّ العلماء الذين حملوا اسم بورباكي لا يزال أثرهم خالداً حتى هذا اليوم، وعلى الرغم من أَنَّ نيكولاس بورباكي لم يكن له وجود، ألا أَنَّ إرثه لا يزال قائماً، فخلف هذه المزحة التي امتدت لسنين طوال، كان هنالك عملٌ جبّارٌ جعل علماء الرياضيات اللاحقين يقفون على أقدامهم مُجدداً، كان كتاب ”عناصر الرياضيَّات“ هيكلاً وأساساً مُنظَّماً غيَّر مستقبل الرياضيَّات الذي ندرسه اليوم، وساهم في تغيير مجرى هذا العلم الى الأبد.

 

 الكاتب/ ام البنين حيدر

التدقيق والتحرير/ حميد الشمري

 

Leave A Reply