بليغ حمدي عالم من العبقرية والفوضى والابداع اللامتناهي
أنا شويّة همّ على غُلب، شويّة دقات في القلب بتقولي أن أنا لسّه عايش“. هذا ما كُتب في أول ورقة من دفتر المذكّرات الخاص بالموسيقار الكبير: بليغ حمدي”ملك الموسيقى“، أحد الألغاز المصريّة المترسِّخة في الوجدان العربيّ حتى بعد مرور ٢٧ عاماً على وفاته فمن هو بليغ حمدي؟ لنتعرّف عليه من خلال هذه المقالة
بليغ حمدي عالم من العبقرية والفوضى والابداع اللامتناهي
”أنا شويّة همّ على غُلب، شويّة دقات في القلب بتقولي أن أنا لسّه عايش“. هذا ما كُتب في أول ورقة من دفتر المذكّرات الخاص بالموسيقار الكبير: بليغ حمدي. أحد الألغاز المصريّة المترسِّخة في الوجدان العربيّ حتى بعد مرور ٢٧ عاماً على وفاته. بليغ حمدي الموسيقار النابغة حيث أستطاع أن يستوعب مختلف الأساليب الموسيقيّة ويعيد صياغتها بطابع تجديديّ مغاير لما كان يتبعهُ عمالقة الموسيقى المصريّة، متدرجاً من الألحان الشعبيّة المصريّة حتى الألحان الرُّومانسيّة الرّقيقة تلك التي تناسب جمهور عبدالحليم والألحان الوطنيّة الحماسيّة الخالدة كما في أغنيّة شادية ”يا حبيبتي يا مصر“ وحتى الألحان الصوفيّة كما في رائعة الشيخ النقشبندي ”مولاي إني ببابك“ ولَمْ تخلُ ألحانه من الشجن الشرقيّ فقد لُقِّبَ بليغ بـ ”لحن الشجن“ وكذلك ”ابن النيل“ و”ملك الموسيقى“.
ملك الموسيقى
”الي أعرفه كويس قوي، أن أنا من يوم ما حسّيت بالمزيكا وأنا بحبّها!“ ”أشتغلت في المزيكا وبموت فيها، وسعيد أن أنا ضعت فيها“.
لحّن وهو جالساً على الأرض ”حُبّ إيه“ في أول لقاء له مع أم كلثوم حيث سمعتْ ألحان الأغنية التي ستقدمها في عام ١٩٦٠ وأدركتْ بفطنتها أنها بحضرة الموسيقيّ المتمرّد الذي ستغنّي مصر ألحانه لستين سنة قادمة كما وصفه محمد فوزي، فما كانت الأُغنية إلا إنطلاقة جديدة لأم كلثوم في رحلة موسيقيّة جديدة حرّرتها من النمط السنباطيّ المعتاد حيث أعتمدت أسلوب أكثر تجديداً وحيويَّةً بالتعاون مع الموسيقيّ الذي لحّن لها ما يقارب الـ١١ عملاً بدايةً من ”حُبّ إيه“ الذي لحّنها وهو في العشرينيات من عمره، فكان أصغر من يُلحّن لها على الإطلاق، وانتهاءً بـ”حكم علينا الهوى“ وهي آخر ما تغنّتْ به أم كلثوم قبيل وفاتها. وكانت ثمار تعاونهما معاً العديد من الأغاني التي بقيت رموزاً للأُغنية العربيّة مثل ”ألف ليلة وليلة“ و”سيرة الحُبّ“ و”بعيد عنك“ و”فات الميعاد“. وقد عُرف بليغ حمدي في الوسط الفنّيّ قبل ذلك بسنوات عن طريق تعاونه مع عبدالحليم حافظ الذي أنتج تعاونهما معاً ما يقارب الـ٣٠ عملاً تتراوح بين الأعمال الوطنيّة والرُّومانسيّة وحتى الأُغنيّات التي أمتزجت ألحانها بالألحان الشعبيّة مثل ”على حِسب وداد قلبي“ و”التوبة“، هذه الألحان التي تعبّر عن ذكاء بليغ حمدي وقدرته على إلهام الفنّانين الكبار لإدخال الألحان الشعبيّة المصريّة على أساليبهم اللّحنية المعتادة، فبليغ الذي يرى الإستغراق في الألحان الشعبيّة هو الوصول للعالميّة، كان كسيّد درويش؛ الإيقاعات الشعبيّة جزءً لا يتجزء من ذاته المصريّة والفنّ الذي يأخذه من النّاس يهديه للنّاس. كان بليغ محطّة من محطّات النجاح للكثير من الفنّانين، فقد شَمَل عطاءه، الذي سَيطر على المذاق العربيّ للفنّ عقوداً طويلةً، فنّانين كُثُر، كباراً وصغاراً، من داخل وخارج مصر وحتى خارج الوسط الفنّيّ، فقد اكتشف العديد من الفنّانين وصدّرهم للسّاحة العربيّة أمثال ميّادة الحناوي وذكرى وسميرة سعيد وعلي الحجّار وغيرهم الكثير. كما كان هناك فنّانون شكّلوا أهمّ الأحداث في حياته التي كانت كشلّال مُتدفِّق، تتغير بإستمرار بين النجاحات المتوالية والإنكسارات والفشل ومرارة الحُبّ والإبداع اللامتناهي.
”الحُبّ فنّ“
كان جوابه حين سُئل في احدى اللقاءات عن حُبّ حياته، وردة الجزائرية، وكيف أثّرت علاقتهم الزوجيّة على أعمالهم المشتركة التي زادت عن ٢٥ عملاً، شملت أبرز الأعمال لوردة والتي صنعت تاريخ وردة الحقيقيّ بكُلّ حُبّ، مثل ”العيون السود“ و”دندنة“ و”حكايتي مع الزمن“. بليغ، الطفل الفذّ العابث الذي يعيش بكُلّ بوهيميّة وفوضى، الذي ينسّى بإستمرار كُلّ شيء بإستثناء موسيقاه وعوده، الذي نسّي حتى موعد زواجه من وردة، كان قد أحبّ وردة بعمقٍ، أحبّها حتى أيَّامه الأخيرة. يقول واصفاً حُبّه لوردة ”خدت منها الحُبّ والحنان والدفى زي ما بيقولوا، والرّقة والصّدق“. ”أنا عُمري في حياتي ما إهتزّيت لعاطفة امرأة غير لمّا شوفت وردة وأنا بسّلم عليها“. بليغ، الذي واظب على إرسال الورد لمعشوقته بإنتظام حتى قالت له يوماً ”بفلوس الورد، يا بليغ، كان زمانَّا بقى عندنا عمارة“، لَمْ يستطع مقاومة جنونه وفوضويّته التي أطاحت بإستقرار حياته الزوجيّة مع وردة، التي ابتدأت سنة ١٩٧٢ بعد عناء إنتظار دام لسنين طويلة، ثُمّ أنتهت بالطلاق بعد ٧ سنين. لَمْ ينتهِ الحُبّ بإنتهاء هذا الزّواج، فقد استمر بليغ بصياغة مشاعره في شكل ألحان موسيقيّة عذبة كما كانت عادته قبل الزّواج، حينما لحّن ”ألف ليلة وليلة“ و”فات الميعاد“ و”سيرة الحُبّ“، وأُغنيّة ”بعيد عنك“ التي قالت له أم كلثوم ممازحة بعد ما غنّتها ”أنت عاملني كوبري للبنت بتاعتك يا بليغ؟“، وغيرهنّ الكثير، بل وحتى أُغنيّة وردة الشهيرة ”العيون السود“ التي وصفها وجدي الحكيم المُقرّب من بليغ حمدي بأنها أكثر أُغنيّة تُجسّد حُبّهما، حيث كتبَ بليغ من كلماتها: وعملت إيه فينا السنين؟ فرّقتنا؟ لا، غيرّتنا؟ لا، ولا دوَّبت فينا الحنين.. وهكذا دوّنت الألحان والأُغنيّات قصّة حُبّهما،حتى ذات يوم، وقّفت وردة غناءها على المسرح لتدعو بليغ للصّعود فتقبّله وتقول ”ما شوفتوش من شهر! شهر ما شوفتوش“، بقيت الأغنيّات هذه مستمرة حتى بعد الإنفصال، إلى أن انتهت بأُغنيّة ”بودعك“، أُغنيّة مُعاتَبة شَجيَّة تحكي قصّة إنهيار حُبّهما حيث كتب بليغ من كلماتها: بودعك، وبودع الدنيا معك، جرحتني قتلتني غفرت لك قسوتك، بودعك من غير سلام ولا ملام ولا كلمة مني تجرحك، أنا أنا أجرحك؟ بسم الآلام ارحل قوام حُبّي الكبير حيحرسك في سكتك، الله الله معك..
بليغ: ابن النيل، ولحن الشجن!
– هل تشعر بأنك مظلوم؟
– طبعاً، أنا حاسّس بالظُلم وده احساس رهيب.
– مَن الذي ظلمك؟
– أشياء قدريّة غير مفهومة هي الي ظلمتني، ولو فكرت أن واحد زائد واحد يساوي ثنين بيبقى كُلّ الي حصل لي غريب جداً، ومُش قادر أفهمه..
بليغ من إتصال هاتفيّ..
لم يكن يتصرف وكأنه موسيقار بالمعنى الرسميّ، بل لم يُلقِ أدنى اهتمام لفكرة أنه أحد أبرز ملحّنين مصر في القرن العشرين. طفلٌ عابثٌ بوهيميٌّ غارقٌ بالفوضويّة واللامبالاة، لا يُقيم وزناً للوقت ولا للمال، تحركه اللحظة وتثيره النوتات الموسيقيّة القادمة من المجهول، تلك التي تمر بباله مُسرعة فيسارع ليدوّنها على كمّ القميص أو على فاتورة مطعم أو حتى على المرايا، لا يعرف لها مصدراً سوى موهبته الجبّارة التي أحكمت سيطرتها على بليغ وسلوكه الطّفولي البريء، حيث كان بليغ بسيطاً الى درجة معقدة، طيباً الى حدّ السّذاجة وكريماً الى الحدّ الذي يسمح لأصدقائه بإقامة الحفلات والسهرات داخل شقّته بينما يخلد هو الى النوم أو يخرج تاركاً لهم الشقّة كما لو كان شخصاً غير ذا أهمّيَّة. وفي يومٍ ما، استيقظ بليغ ليجد نفسه مُتّهماً رئيسيّاً بقضيّة الفنّانة المغربيّة سميرة مليان، الفنّانة التي كانت حاضرة في احدى السهرات التي أُقيمت في شقّته بينما هو نائمٌ كعادته، وُجدت جثّة الفنّانة مُلقاةً من شقّة بليغ حمدي، سُرعان ما أُدين بالقضيّة التي ألّبت عليه الصحافة المصريّة ليسافر بعدها مصر وتبتدئ رحلته بأرض المنفى، وهنا يصبح بالإمكان القول أن بليغ ”بليغ مات يوم ما ساب مصر“ كما يصف أحد المُقرّبين، مصر التي غنّى لها كما يُغنّي للمحبوبة، حيث كان يسمّي كُلّ أُغنيّة يُقدّمها لبلده ”غِنوة حُبّ“، خمسة سنين بعيد عنها كانت كافية لسلب صحته النفسيّة والجسديّة وقهر عوده المصريّ الأصيل، كانت هذه الحادثة أكثر الحوادث أسىً في حياة بليغ حمدي. تقول وردة ”دايماً بنقول أُمّي ثُمّ أُمّي، أنا بيتهيألي بلده ثُمّ أُمّه“، وأمّا هو فيقول ”أنا واحد من الناس مُصر أن أنا بأدي نفسي لبلدي بكل ما فيَّ“.
من هو بليغ حمدي؟
هو بليغ عبد الحميد حمدي مرسي، أشهر الملحّنين العرب في القرن العشرين، وُلد في حي شُبرا في القاهرة في 7 أكتوبر 1931 وتعلم على العود منذ سنته السابعة ليتقنه في سن التاسعة. حاول الالتحاق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى (معهد الموسيقى العربية حالياً) في الثانية عشر من عمره ولكنه رُفض لصغر سنه. درس في مدرسة شبرا الثانوية في الوقت الذي كان يدرس فيه أصول الموسيقى في مدرسة عبد الحفيظ امام للموسيقى الشرقية ثم تتلمذ بعد ذلك على درويش الحريري وتعرف من خلاله على الموشحات العربية، درس بليغ بكلية الحقوق ولم يكمل دراسته الجامعيّة، والتحق بشكل أكاديمي بمعهد فؤاد الأول للموسيقى. في بداية الستينيات تزوج بليغ حمدي من أمنية طحيمر، لكن زواجهما لم يستمر سوى لعامٍ واحد، بعدها بحوالي عشر سنوات تزوج من وردة الجزائرية وذلك عام 1972 بعد قصة حب طويلة وانتهى زواجهم بالطلاق بعد 7 سنين. رحل بليغ حمدي عن مصر بعد اتهامه بحادث انتحار الفنانة سميرة مليان عام 1984، تمت تبرئة بليغ لاحقاً من هذه القضية عام 1989 وعاد الى مصر، توفى بليغ في باريس بتاريخ 12 سبتمبر 1993، عن عمر يناهز 62 عاماً بعد صراع طويل مع مرض الكبد. (ويكيبيديا)
الكاتب / روان العربيد
التحرير والتدقيق / نور الزهراء ناظم
المصادر:
الجزيرة، الأهرام، ولقاءات بليغ حمدي.