موقع الأنسان في السلسة الغذائية – انعطافة مثيرة من انعطافات التاريخ

| ما هو موقع البشر في السلسلة الغذائية؟ وهل تغير هذا الموقع عبر التاريخ؟ وهل لهذا الموقع تأثير على البشر أنفسهم؟ أم على النظام البيئي؟ أم كليهما؟ وكيف حاول بعض الباحثين الربط بين هذا كله وبين النزعة العدوانية لجنسنا البشري, وارتكابه للمجازر المروعة بحجج مختلفة؟

0

موقع الأنسان في السلسة الغذائية – انعطافة مثيرة من انعطافات التاريخ

 

كل من درس العلوم في المرحلة المدرسية الابتدائية قد سمع بمصطلح (السلاسل الغذائية), والتي تعني ببساطة أن يكون نوعًا من أنواع الكائنات الحية مصدرًا غذائيًا لنوعٍ ثانِ, والنوع الثاني يكون غداًء لنوع ثالث وهكذا مشكلين سلسلة غذائية داخل النظام البيئي المتوازن. في حين يدرسها المتخصص في علم الايكولوجيا بمفهومٍ أعمق, كون السلسة الغذائية تمثل مراحل انتقال الطاقة داخل النظام البيئي بين المستويات الغذائية المتعاقبة (من المنتجات الى المستهلك الاول, ثم المستهلك الثاني والثالث … انتهاًء بالكائنات المحللة). ما هو موقع البشر في السلسلة الغذائية؟ وهل تغير هذا الموقع عبر التاريخ؟ وهل لهذا الموقع تأثير على البشر أنفسهم؟ أم على النظام البيئي؟ أم كليهما؟

اعتمادًا على أدلة علم الاحافير والتاريخ الطبيعي, ظهر البشر على كوكب الأرض قبل أكثر من (2,5) مليون سنة, بعد عدة مئات من آلاف السنين بدأ البشر بالهجرة من شرق أفريقيا الى مناطق أخرى من الكوكب, وظهرت عدة أنواع في أماكن مختلفة, فظهر انسان النياندرتال في أوربا وغرب آسيا, والانسان المنتصب في شرق آسيا, والانسان المتقزم (انسان سولو) في جزيرة جاوا في اندونيسيا, كذلك وظهر انسان رودولف والذي مر بتحولات من الانسان العامل الى الانسان العاقل Homo sapiens والذي ينتمي له جميع البشر في الوقت الحالي. (1)

من طريف القول, انه في يومٍ من الايام (قبل 100 ألف عام مثلًا) كان هناك ستة أنواعٍ من البشر تمشي على الأرض, لم يتبقى منها الا نوع واحد, نحن!

ان النظام الغذائي للبشر اختلف اختلافًا جذريًا على مر التاريخ, فقبل مليوني سنة, كان البشر يعتمدون في جزء من غذائهم على سحق العظام المتبقية من فرائس الحيوانات الكبيرة, فكان الانسان يحتل موقعًا وسطيًا في السلسلة الغذائية, كان يعتمد على جمع الثمار ويصطاد بعض الفرائس الصغيرة, بينما كان الانسان نفسه فريسة للعديد من الحيوانات المفترسة الاخرى. قبل (400) ألف عام ومع تطور المهارات اليدوية وبعض الادوات بدأت بعض أنواع البشر باصطياد الفرائس الكبيرة, وقبل (100) ألف عام, ومع بزوغ الانسان العاقل (نحن) قفز البشر الى قمة السلسة الغذائية, وتسيد النظام البيئي بامتياز.

للوهلة الاولى, تستوقفنا كلمة “قفزة” وهل تنسجم مع فترة زمنية تمتد لمآت الآلاف من السنين؟ حسب مقاييس تطور الكائنات وما يترتب عليها من علاقات التوازن في الانظمة البيئية, نعم, انها قفزة! ففي الوقت الذي استغرقت فيه الاسود لكي تتسيد السلسلة الغذائية للنظام البيئي في الغابة ملايين السنين من التطور, وكذلك الحال في القروش التي تسيدت بعض الانظمة البيئية المائية وأصبحت في قمة سلاسلها الغذائية. بينما البشر, ومن خلال الانسان العاقل, استطاع أن يقفز الى قمة السلسلة الغذائية خلال مئات قليلة من آلاف السنين, من غير أن يمر بسنّة التدرج البطيء التي تحفظ للأنظمة البيئية توازنها الفريد.

كيف حصلت هذه القفزة؟ ولماذا؟ ربما سنحاول الاجابة عن هذا التساؤل المثير في مقال آخر. لكن, ما هي نتائج صعود الانسان الى قمة السلسة الغذائية؟ هل أثر ذلك على الانسان نفسه؟ كيف أثر ذلك على النظام البيئي؟ هذا ما سنحاول تناوله في النقاط التالية:

  • لا شك ان من أهم العلاقات الايكولوجية التي تربط الكائنات الحية ضمن النظام البيئي هي التنافس Competition, وعندما يكون نوعًا ما في قمة السلسلة الغذائية سوف يتزامن ذلك مع امتلاكه القوة مقارنة بالكائنات الأخرى, وهذا ما سوف يعطيه الأسبقية في سباق التنافس على المأوى والغذاء ومتطلبات البقاء الاخرى. ففي الوقت الذي كان فيه الانسان يتنافس مع المفترسات الكبيرة على بعض الفرائس الصغيرة, وفي كثير من الاحيان كان فيه البشر يتطفل على بقايا الفرائس الكبيرة (كما تفعل الضباع بتناول ما يتبقى من فرائس الاسود) ويضطر الى سحق العظام المتبقية لتناول ما بداخلها من نخاع, أصبح قادرًا على منافسة المفترسات القوية لنيل ما يشتهيه من الفرائس الصغيرة ومتوسطة الحجم ليزداد تنوع قائمة غذائه بالإضافة الى ما تضمه من فاكهة وخضار وجذور النباتات التي يجمعها من خلال تجواله في الغابات أو الحقول المفتوحة.
  • حينما قفز الانسان العاقل الى قمة السلسلة الغذائية وأصبح قادرًا على قتل الحيوانات المفترسة والثديات الضخمة, تخلص من أهم المخاطر التي كانت تهدد حياته, فلم يعد الانسان خائفًا من الذئاب وهو يمتلك سلاح النار, وكذلك لم تعد هجمات النمور خطرة مع ما يتمتع به الانسان الصائد من تنظيم جماعي وأدوات صيد خطرة, مما ساهم في زيادة أعداد البشر وزيادة متوسط أعمارهم كذلك.
  • عندما انتقل الانسان العاقل الى قمة السلسلة الغذائية بصورة مفاجئة مقارنة بسنن التطور الطبيعي, أحدث ذلك خللًا كبيرًا في توازن النظم البيئية التي تواجد فيها ذلك الانسان, حيث أمعن البشر باستخدام سطوتهم في استنزاف الموارد الطبيعية, وبدأوا بقتل بعض الحيوانات بصورة أسرع من قدرة تلك الانواع على تعويض أفرادها المقتولة من قبل الانسان, فبدأت جماعاتها بالتقلص ومن ثم تعرض العديد منها للانقراض. فبعد تلك القفزة أصبح الانسان العاقل سببًا في موجات من الانقراض للعديد من البيئات الطبيعية التي غزاها ذلك المفترس الجديد! على سبيل المثال, وصل أول انسان لأستراليا قبل (45000) عام, وخلال بضعة آلاف من السنين فقط انقرض 23 نوع من أصل 24 نوع من الثديات التي تزن أكثر من (50 كغم) في تلك المناطق التي استوطنها البشر الأوائل. ولو أخذنا مثالًا من تاريخنا الحديث فسنجد ان البشر قد وصلوا الى جزر نيوزلندا قبل (800) عام, وخلال قرنين فقط انقرضت معظم الحيوانات المحلية و(60%) من أنواع الطيور هناك. (2) وفق بعض الاحصائيات الحديثة, اتضح ان البشر يتسبب بقتل الحيوانات اللاحمة التي في قمة السلاسل الغذائية كالدببة والذئاب والأسود بما يقارب (9) تسعة أضعاف معدل موتها الطبيعي في أنظمتها البيئية, كذلك الحال في الانظمة البيئية البحرية, اتضح ان البشر يتسببون بنقصان جماعات الاسماك البالغة بما يقارب (14) أربع عشرة ضعفًا عما تفعله مفترسات بيئتها الطبيعية. (3)
  • يجادل بعض علماء الانثروبولوجيا, بضرورة التعمق في دراسة تاريخ البشر ومراحل تطورهم لنتمكن من فهم الانسان الحالي وما يتمتع به من نزعات نفسية وميول غرائزية. يبدو هذا التوجه منطقيًا جدًا, فلو عرفنا ان البشر قضوا أكثر تاريخهم كإنسان جامع, يعتمد في قوته على ما يجمعه من النباتات التي تنمو في محيطه, وعلى بعض الفرائس الصغيرة, يتنقل بين الادغال حذرًا خائفًا من مهاجمة الحيوانات المفترسة أو من لدغة أفعى أو مصادفة عنكبوت سام, فيمكننا أن نتخيل حينئذٍ حجم الغرائز التي ورثناها من أجدادنا الجامعون أولئك. ومن ثم كيف أثرت قفزة الانسان العاقل الى قمة السلسة الغذائية بعد ذلك, عندما وجد نفسه أقوى الكائنات في حين ان الكثير من غرائزه موروثة من الانسان المستضعف الحذر, ربما احدى آثار هذه المفارقة هو ما يتمتع به البشر عمومًا من نزعة عدوانية تجاه بنو جنسه من البشر أو تجاه الانواع الاخرى من الكائنات الحية, وربما يمكن ان نفسر ولو جزئيًا ما قام به البشر من حملات قتل مروعة ومجازر ارتكبها باسم الدين او القومية او مبررات العنصرية الاخرى.
  • في بادئ الأمر, وفر تربع الانسان على قمة السلسلة الغذائية خيارات غذائية جديدة, وتنوع غير مسبوقٍ في قائمة غذائه اليومية, مما قلل من التعرض لحالات سوء التغذية. في القرن الأخير, وبعد ظهور التلوث في مختلف البيئات التي يسكنها البشر, ظهر تداخل بين هذا التلوث وبين من يحتل قمة السلسلة الغذائية من خلال ظاهرة التضخم البيولوجي Biological Magnification والتي تعني باختصار(4): عندما تجد بعض الملوثات طريقها الى بعض الكائنات الحية, سوف يتراكم جزء منها في خلايا وأنسجة تلك الكائنات من خلال عملية تعرف باسم التراكم البيولوجي Bio-accumulation ومن ثم تجد طريقها الى كائنات حية أخرى خلال السلسلة الغذائية عندما يقوم كائن حي بالتهام أنسجة كائن حي آخر ملوث بتلك السموم المتراكمة. لقد وجد الدارسون أن تركيز تلك السموم يتعاظم كلما انتقلنا الى مستوى غذائي أعلى في السلسلة الغذائية الى أن نصل الى القمة, حيث سنجد التركيز الاعلى. على سبيل المثال, لو وصلت بعض الملوثات البشرية الى حقل للحشائش عن طريق التربة أو المياه الملوثة, سوف تتراكم هذه السموم داخل انسجة الكائنات المنتجة (النباتات), ومن ثم تنتقل الى المستهلكات الاولية (الغزلان مثلًا), ومن ثم تنتقل الى المستوى الاعلى من السلسلة الغذائية وليكن الذئاب باعتبارها مستهلك ثانٍ, ومن ثم الى المستهلك الاخير وهو النمور. لو تم قياس تلك الملوثات ومقارنتها بين المستويات الغذائية المتعاقبة, سنجد ان تركيزها الاعلى يتمثل في قمة السلسة (جسم النمور) كون النمور أكلت الكثير من الذئاب, والتي بدورها تغذت على العديد من الغزلان التي بدورها تناولت كميات كبيرة من الحشائش. يعاني انسان اليوم من هذه الظاهرة كونه السبب الاول للتلوث البيئي من جهة, وكونه يحتل قمة السلسة الغذائية من جهة أخرى, فالعديد من الملوثات الزراعية والمبيدات الحشرية, تتراكم في النباتات والاعلاف التي تشكل غذاء الثروة الحيوانية التي سيتناولها البشر في الأخير.

مما تقدم من الضروري جدًا أن نفهم الحقيقة التالية ” صعد النوع البشري الى القمة بسرعة كبيرة لم تعطِ النظام البيئي وقتّا للتلاؤم, وفوق ذلك كله فشل البشر أنفسهم في أن يتلاءموا, فجاءت الكثير من الأحداث المأساوية في التاريخ, من الحروب المهلكة الى الكوارث البيئية, نتيجة لهذه القفزة المتعجلة”. (5)

الكاتب | كرار اكرم كامل
التدقيق والتحرير | محمد رحيم

المصادر:

  1. العاقل – تاريخ مختصر للنوع البشري, 2014. تأليف ليوفال نوح هراري, ترجمة صالح الفلاحي وحسين العبري.
  2. العاقل, مصدر سابق.
  3. Humans are ‘unique super-predator’ Accessed Jan. 30, 2023. Link: https://www.bbc.com/news/science-environment-34011026.amp
  4. What Is Biological Magnification? Accessed Jan. 30, 2023. Link: https://www.bioexplorer.net/biological-magnification.html/
  5. العاقل, مصدر سابق.

 

Leave A Reply