اللغة الخشبية

يقول بول ڤاليري «ما هو حقير في السياسة هو الغموض الدائم للكلمات والعقائد، التي لا تعرف عنها أبداً في ما إذا كانت تُميل إلى بعض الحقيقة أو بعض المصالح الخاصة أو تحركها المشاعر، وما إذا كانت أيضاً هذه المشاعر صادقة أو زائفة» كثيراً ما نسمع عبارة "لغة الخشب" و "الديماغوجية" للتعبير عن الكذب المُغلف بالمدح والإطراء، للمناورة والإغراء، أو بكلمة مُعبرة أكثر (النفاق السياسي) , سنتعرف في مقالنا لليوم عن اللغة الخشبية في السياسة والأدب.

0

اللغة الخشبية

 

تشكل اللغة أساس العملية التواصلية بين البشر، نحن نستخدمها إما للتخاطب بصورة تلقائية بهدف إيصال معنى محدد وواضح لتحقيق غاية التواصل الفعال والمنتج، أو بصورة أكثر دقة وتنظيماً من خلال الخطاب الذي يُصمم مسبقًا بهدف التأثير والإقناع ودفع المتلقي إلى تعديل وجهة نظره بناء على ما يخبره المتحدث والطريقة التي يخبره بها.

 

عرّف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (الخطاب)، وهو أول من حدد تكوينه وبنيته، على أنه “منظومة فكرية تُكوّنها مجموعة آراء ومواقف واتجاهات عمل ومعتقدات وممارسات، تبني أو تنظم منهجياً الموضوعات والشؤون الحياتية”.

 

ظهر مصطلح (اللغة الخشبية) أبان الحقبة البلشفية لما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي، أي في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. أطلق الفرنسيون مصطلح (لغة الخشب) على الخطاب السياسي الإعلامي السوفييتي للتعبير عن جمود السياسة والإعلام الشيوعي وعدم مرونته أو حتى قابليته للمرونة..

كثيرا ما نسمع عبارة “لغة الخشب” و “الديماغوجية” للتعبير عن الكذب المُغلف بالمدح والإطراء، للمناورة والإغراء، أو بكلمة معبرة أكثر (النفاق السياسي).

حيث ﻇﻬﺮ المصطلح ﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻟﻪ ﻟﺘﻮﺻﻴﻒ (ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ) ﻭﻭﺻﻔﻪ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ‌ ﻳﺤﺘﻮﻱ على ﺃﻱ ﻗﻴﻤﺔ ﺃﻭ ﺭﺻﻴﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ، ﺃﻱ ﺃﻧﻪ ﺇﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﻮﻫﻢ ﻭﻣﻮﻏﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺰﻳﻒ·

 

على ما بدا أن الدوافع التي أفرزت هذا المصطلح كانت سياسية بالدرجة الأولى وليست إعلامية، ذلك أن الفرنسيين استنبطوا مقولتهم هذه من السلوك الإعلامي للسياسيين الشيوعيين لاستخدامهم مفردات وعبارات اتسمت بالصلافة والجمود. ومَردَّ ذلك أن الفرنسيين والغربيين عامة كانوا يتبنون نهجاً إعلامياً ثقافياً شعبوياً مغايراً للنهج الشيوعي ينطلق من معايشة ومهادنة المتلقي وصولاً للتأثير فيه وعليه.

كانت اللغة الخشبية في الاتحاد السوفيتي سابقاً، قد تحولت إلى كلام غير طبيعي لأنها فقدت علاقتها بالواقع، بحيث صار من الممكن ادعاء أن الأبيض أسود أو العكس، والسيطرة الصارمة المفروضة عليها أفقدتها القدرة على أداء الوظائف الطبيعية لأي لغة من اللغات. فقد كانت نصوص المقالات المنشورة في صحف ذلك العصر كنوع من الضجيج العديم المعنى الذي يُراد منه منع الجمهور من الاستماع إلى خطابات أخرى. وكان من أدوار هذه اللغة أيضاً إبداء الولاء للنظام. فمن كان يستخدمها كان يُعتبر من أنصار النظام، بخلاف غير متقنيها الذين كانوا يُعامَلون معاملة العناصر الخطيرة المُهدِدة للنظام، فلا يجب أن ننسى أن هذا التحول الغريب في وظائف اللغة لم يتم نتيجة لتحولاتها الداخلية فقط، بل كذلك نتيجة للإجراءات المُتخذة على الساحة السياسية، إذ لم يكن للغة أن تصبح كياناً قائماً بذاته منقطع العلاقة بالواقع لولا عمل الأمن السياسي الذي كان يعاقب كل من يستخدم خطاباً بديلاً عن الخطاب المعتمد رسمياً. وهذا ما لا يمكن أن يحدث للغة في ظل النُظم الديمقراطية، لأنها تتصف بتنوع الآراء والأفكار والمواقف وتسمح للناس بتفنيد الخطاب السياسي الرسمي.

 

من خلال بحثي في هذا الموضوع لفت انتباهي عدة كتابات و مقالات منها مقال للكاتب جورج أورويل (George Orwell) حيث كان أول من انتقد اللغة الخشبية في السياسة في مقالة تحت عنـوان “السياسة واللغة الإنكليزية” أشار فيها إلى أن اللغة والمصطلحات تتشوه بسبب تدهور التفكير، الذي يعود بدوره إلى الغموض المتزايد للتعبير اللغوي. وهذا كله يُعزى إلى تأثير السياسة، لأنها تتخذ الكلام طريقة من طرق الخداع، وتميل بالتالي إلى استخدام الكليشيهات والتعبيرات الجاهزة في الإشارة إلى الأشياء والوقائع المزعجة وغير المرغوب فيها.

وأيضاً في أواخر الثمانينات من القرن الماضي عالجت المتخصصة الفرنسية بالشؤون السوفييتية

(Francois Thom) هذا الموضوع معالجة شاملة دقيقة في كتاب بعنوان “اللغة الخشبية” أشارت فيه إلى أن طريقة الكلام التي رَوجت لها النُظم السياسية في الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة، تسببت في تشويه الكلام والتفكير في آن معاً، ومما يثبت ذلك أنها خلفت آثاراً متشابهة في لغات مختلفة كالإنكليزية والفرنسية والروسية والصينية والعربية. وكان لهذه اللغة الخشبية وجود واسع في المجتمع، وكانت بمثابة رمز للقوة المطلقة التعسفية للنظام.

 

وفي دولنا العربية، يكثر استعمال هذه اللغة الخشبية، والمصطلحات والقوالب المعلبة والجاهزة والتي كبرنا ونحن نسمعها يومياً، حتى إننا حفظناها جيداً، وعدد كبير مننا يستطيع أن يُكمل الجملة الخشبية عندما يسمع بدايتها.

و كما سبق الذكر قد سماها البعض لغة الأحزاب بامتياز وأيضاً باللغة الدعائية للأحزاب، التي تقوم على فرضية معينة لخبر معين، حتى صرنا نجد أن معجم اللغات الخشبية مقسماً إلى مفردات إيجابية وسلبية، أي مفردات تنتمي إلى توجهات سياسية محددة، وكانت الصحف وربما ما زالت حتى الآن، ترفض أو تمنع استعمال مفردات يعتبرها النظام عدائية بسبب دلالات توحي بمظهر من مظاهر الرأسمالية أو الحضارة الغربية بشكل عام، مثل مصطلحات (الشرق الأوسط أو دول الطوق، حقوق الإنسان) وتوصيهم باستبدالها بمرادفات لها خالية من تلك المدلولات مثل (دول المواجهة، ودول الصمود والتصدي، الحقوق الإنسانية).

لقد جعل بعض الرؤساء -خاصة في العراق- من خلال استعمالهم ل اللغة الخشبية، الدولة بلا أُسس عقائدية وبلا منظومة قيم حقيقية. فالواقع الثقافي والاجتماعي يكشف اليوم أن قيم الشعارات واللافتات والهتافات والمصطلحات الحزبية ليست إلا عملاً دعائياً صرفاً بلا مفعول حقيقي غير التمادي في إضفاء الحكمة على كل فعل رئاسي إلى أن تصل ذاتُ الرئيس إلى مصافِّ “الآلهة”. وعند حدوث ثورة أو انقلاب أو اي خلاف مهما كان بسيط، نتأكد بأن هذه الشعارات واللافتات والهتافات والمصطلحات الخشبية لن توفر أي حماية للرئيس. ونرى بأن هؤلاء المصفقون أول الهاربين والمُتخلين عن رئيسهم لأن الذي كان يربطهم به ما هو إلا لغة خشبية بدون أي معنى، بدون أي ولاء، إلا لمصالحهم الشخصية وركوب الموجه للتقرب من الحاكم وتحقيق مصالحهم.

وهنا لا بدّ أن نمرُّ سريعاً على خطابات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فله حصة الأسد في استثمار أساليب اللغة الطنانة ومهارات التلاعب اللغوي. فبحسب صحيفة واشنطن بوست، قدم ترامب حوالي  (2140) ادعاء زائفاً أو مضللاً خلال عامه الأول فقط، بمتوسط 5.9 يومياً، ووصل في 29 أيار(مايو) 2020 إلى 19128 ادعاء كان أبرزها “كان لدينا أكبر اقتصاد ليس فقط في تاريخ أي بلد أو في تاريخ بلدنا، بل كان الأعظم في تاريخ العالم”

إضافة إلى انتهاجه أسلوب المناشدة بالعاطفة للخروج من مواقف دقيقة وحرجة، خصوصاً قبل الاستحقاقات الانتخابية. الأمثلة كثيرة منها; استعانته بالكتاب المقدس أمام كنيسة القديس يوحنا في واشنطن بعد حادثة مينيا بوليس. في محاولة لاستمالة المتدينين وجذب عواطفهم واستهداف قيمهم الأساسية للتأثير في قراراتهم. الحركة التي سبقه عليها سياسيون آخرون في العالم العربي.

 

“لغة الخشب” هي دائماً لغة الآخرين. والقول عن سياسي أنه يستخدم لغة خشبية هو القول بأنه يتكلم وفق أسلوب غير معقول في الخطاب، وأن حديثه باطل، لأنه مبني على عقيدة غير لائقة، أو لأنه غير مطابق للواقع.

مما تقدم نستطيع أن نتوصل الى إن “اللغة الخشبية” هي لغة ذات عبارات وتراكيب ثابتة ومعجم محدود متكون من مفردات خالية المعنى. وهي تمثل أيضاً أداة للتستر على الواقع. ومن أهم خصوصيات هذه اللغة خلفيتها الفكرية المحدودة للغاية، فهي تتصف بالجمود، وتجنب التعبير عن الحقائق الملموسة، وتتصف بالمبالغة في وصف الأحداث، وعدم قدرتها على التعبير عن الأحكام والآراء المعتدلة الواقعية. وتستعمل اللغة الخشبية أيضاً الكلمات المعقدة والدخيلة والاستعارات الرديئة غير القائمة على التشابهات الحقيقية بين الأشياء، والتي يسميها الكاتب الإنكليزي جورج أورويل ” الاستعارات المحتضرة”.

 

وحين انتقل هذا التعبير (اللغة الخشبية) إلى الأدب، فإنه أصبح يعني تلك الاستعمالات الأسلوبية التي تتوغل داخل النص أو الخطاب دون أن يكون لها رأسمال من صدق الأحاسيس، ودون أن تكون متمثلة من قبل النص أو المبدع.

وأنا أعتقد أن لغة الخشب تتطور من حال أدبي إلى حال أدبي آخر، ومن مرحلة تاريخية أدبية إلى أُخرى. فما قد يكون (لغة خشب) في مرحلة معينة قد تبعث من جديد في استعمالات ربما لأداء نقيض ما كانت تعنيه في أساس استعمالها الأول. لذا نلاحظ أن كثيراً من أساليب لغة الخشب قد تستعمل في المسرح لأداء السخرية أو الفكاهة، وهي بالتالي تصبح مبدعة حين يستطيع الكاتب المسرحي أن يدخل بها آفاق التهكم وتعرية حالة متردية. فهنا المبدع يعري لغة الخشب بذاتها ومن خلال مرآتها. ولكني أريد أن أشير هنا أيضاً إلى ظاهرة أخرى هي ظاهرة لغة الخشب المعاصرة أو “لغة الخشب في الحداثة العربية” أو بالأحرى (الحداثة عند العرب المعاصرين) وأعني بها تلك الاستعمالات التي نقرأها عند بعض نقاد الحداثة من مصطلحات ومفاهيم فلسفية أو سيميولوجية يستعملونها كيفما أتفق ودون تمثل فلسفي ولا روح إنسانية أو لغوية تجعل منها سياقات منتمية إلى السياقات المعرفية العربية، وهذا الحال هو مرض معرفي قائم على البحث عن خروج أو تحرر من لغة خشب تقليدية والسقوط في لغة خشب معاصرة أو جديدة. والكاتب أو صاحب هذه الاســـتعمالات يريد إشعارنا بأنه ينتمي إلى نغمة الحداثة.

كما أنني أعـــتقد أن هناك لغة خشب أخرى في الإبداع الشعري، إذ أشعر في مرات كثيرة وأنا أقرأ نصوصاً عربية لهذا الجيل الجديد، وكأنني أقرأ شيئاً مفككاً في لغة جاهزة ومعلبة قادمة من سياقات شعرية أخرى، وهو ما أسميه

بلغة الخشب في الشعر الحداثي المعاصر. حين نشعر بصوت محمود درويش يخترق تجارب كثير من الأصوات الشعرية العربية دون أن تكون هناك استيعاب أو تمثل لهذه اللغة أو لهذه التجربة.

 

يطول الحديث في هذا الموضوع، إلا أن هذه ليست إلا نبذة و إلتفاته لأنني وجدت أن الكثير مننا لا يعرف معنى هذه الكلمة أو من أين جاءت.

أما أخر كلامي، إنه لا نجاة إلا في الصدق والوضوح ويخطئ من يعتقد أن معسول الكلام وزخرفة القول تخفي خبث المعاني ودناءة المقاصد، ذلك لأن حبل الكذب قصير وسبيل المخادعة مقطوع.

 

 الكاتب / فاطمة قائد الطائي
التدقيق والتحرير / محمد رحيم

 

المصادر:

 

Leave A Reply