صراع السلطات على ميدان الشخصية العراقية
بين قيّم البداوة العربية وقيم الحضارة والتمدن، نشأت شخصية العراقي بنزعة الإزدواجية الواضحة في المبادئ والتصرفات، فكيف كان لتأريخ العراق الحديث دوراً في بروز تلك الازدواجية؟ وما الظروف التي حطّت من المستوى العام للشعب، من مخترعي الكتابة والعجلة إلى أمّيين لا يجيدون القراءة ولا الكتابة ولا الحساب؟
صراع السلطات على ميدان الشخصية العراقية
یسلّط الدكتور علي الوردي الضوء على أھم الخصائص التي تتمیز بھا الشخصیة العراقیة. وقد نجح في بحثه -وھو أقرب للمقالة منه إلى البحث- عن أھم ما تتّسم به شخصیة المواطن العراقي والأسباب التي اندرجت منھا تلك السّمات. حتى جمعھا في كتاب ھو في الأصل محاضرة أُلقیت بإسلوب الإسترسال : (شخصیة الفرد العراقي). ولا یغفل الوردي فیه عن ذكر الجانب السّیاسي وتتابع السلطات القمعیة في العراق والتأثیر القوي الذي مارسته في تغییر شخصیة وخصائص المجتمع العراقي.
یرى الدكتور علي الوردي أن طبقة -الأفندیة- في المجتمع العراقي ھي طبقة “متحذلقة مغرورة”، فھي تتعالى على باقي الشعب وتفصل نفسھا عنه. وعلى الرغم من وجودھا في العصور السابقة، إلا أنھا باتت في العصر الحدیث تشكل طبقة واسعة من أبناء المجتمع. فالتغیرات المفاجئة التي تطرأ على الحكم في العراق تقع تأثیراتھا بشكل مباشر على المجتمع، والتي تجسدّت معظمھا بتأثیرات سلبیة على شخصیة العراقي الذي عانى -على مر العصور- من المحن والمصائب، وباتت تلك الأخیرة تنھال على رؤوس العراقیین حتى لم یعد وقع الوقائع علیھم شیئاً غریباً. ذلك ما دفع الدكتور قاسم حسین صالح الى الإقرار بأن ما یعانیه الشعب العراقي فعلیاً ھي “نزعته إلى الاعتیاد”.
إن التغیرات المتسارعة في أنظمة الحكم والسلطات القمعیة والدكتاتوریة -بأساليب قمعها المختلفة- التي توالت على الشعب العراقي على مر التأریخ قد ولّدت علاقة نفور وإنعدام الثقة بین الشعب والطبقة الحاكمة، فبات العراقي ینظر الى السلطة كوحش یرید به شرا، ویخطط لإذلاله وسلب حقوقه، وأن جلّ ما یستطیع فعله ھو الخضوع. وذلك أدى إلى ” شیوعّ ظاھرة القھر الأمر الذي دفع الإنسان العراقي إلى التعلق بالبطل الشعبي أو الإیمان المُفرط بالأئمة والشیوخ والأولیاء الصالحین ذلك لأنه یتطلع إلى منقذ یخلّصه من المحن والرزایا التي تحاصره من كلِّ “حدبٍ وصوب” كما یصفھا عدنان حسین حمد.
وتلك الرغبة الداخلیة المتمثلة بالتمرّد والواقع الخارجي المتمثل بالإنصیاع، كان له دوراً في الإزدواجیة التي تتسم بھا الشخصیة العراقیة. وقد ولّد ذلك الإختلاف وعدم التناسق الى كون العراقي بطبيعته متردداً متزعزعاً منفعلاً غیر مستقر ویمتلك مشاعر متناقضة، فھو یرید ولا یرید.
أنظر ايضاً: السياسة العراقية مابعد 2003
ھذا وإن الشخصیة العراقیة قد إقتربت من الإكتمال في خواصھا ومزایاھا وكادت أن تكون مستقرة ثابتة حاملة قیّم الحضارة والبداوة بشكل متوازن متناسق في نھایة ستّینیات وسبعینیات القرن الماضي، قبل أن یصعد البعث إلى الحكم ویبدأ برمي العراقیین في ساحات مختلف الحروب الاقتصادیة والمیدانیة والنفسیة العنیفة، ثم تركه ممزقاً منھكاً لا یقوى على الوقوف. مما فتح المجال لبعض ً أبناء العامة للصعود الى الحكم وھم الذین لم یحلموا یوما بالسلطة. إن ھذا التغیر المفاجئ الذي طرأ قد غیّر سیر الأحداث بشكلٍ لم یكّن يوماً بالحسبان، فھؤلاء الذین عرفوا كره الشعب ومقته للسلطة طوال حیاتھم، ولم یعایشوا إلّا السلطات التي تقمع حقوق الشعب، وھذا الاخیر لا یملك سوى الإنصیاع، قد بدأوا یرون السلطات في أنفسھم، ویجبرون الشعب على الطّاعة والخضوع. ثم حالما بدأ الشعب بالوعي واستعادة قوته، بدأوا بتھییج المفاھیم المتطرفة الطائفیة، العشائریة والدینیة والقومیة والمناطقیة. فإذ ما كاد الشعب ینھض حتى أنقضوا المبنى بأكمله علیه.
إن ھذه القفزة من الطبقة الخانعة الخاضعة الىّ الطبقة الحاكمة قد قلبت المجتمع رأساً على عقب، فولدت من السّلبیات عدداً لا یُحصى. وصار الأشخاص ذوي الشأن في المجتمع -الأفندیة- هم قلیلي الثقافة في المجتمع ممن لھم تفكیر محدود، “إن النجاح المفاجئ یؤدي عادة إلى الشعوًر بالمقدرة الخارقة وإلى البطر …” ومن المؤسف ً حقا أن الدولة العراقیة عند تأسیسھا لجأت إضطراراً إلى تعیین كثیر من الموظفین الذین لا یستحقون في بلاد أخرى أن یكونوا كتّاب عرائض.” كما یصفه الوردي”.
لكن الشعب الرافدیني المناضل یستمر بمحاولات النھوض، واحدة تلو الأخرى، وكلما ُولد جیل جدید تراه یحمل سمات أجداده السومریین والبابلیین والآشوریین والأكدیین، یرفض الخضوع والإذلال، ویطالب بحقه في العیش.
الكاتب / فاطمة الهاشمي
التدقيق والتحرير / عبدالله ساجد
المصادر :
كتاب شخصية الفرد العراقي للكاتب علي الوردي